الحمد لله ذي الفضل والإحسان أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:
يقول الله –جل وعلا-مخاطبًا النبي –صلى الله عليه وسلم-منذ أوائل بعثته –صلى الله عليه وسلم-: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًاأَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًاإِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾[المزمل: 1-6] تلك الآيات الكريمات في سورة المزمل التي أمر الله تعالى فيها رسوله بالقيام له ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: 2] فأمره الله تعالى بقيام الليل تلك العبادة الجليلة ذلك العمل الذي لا يعدله شيء لذة وطيبًا لمن تذوق وتفيأ ظلاله وقام به.
إن من سلفنا الصالح من كان يفرح إذا جاء الليل كما جاء عن سفيان –رحمه الله-وكانوا يلتذون بالقيام يقول ثابت البناني صاحب أنس رضي الله عنه :" ما شيء أجده في قلبي ألذ عندي من قيام الليل " ينظر: صفة الصفوة( 3/ 155). هكذا يبين هؤلاء رحمهم الله عظيم ما وقع في قلوبهم من تلك النعمة والمنحة التي يتفضل الله تعالى بها على من يشاء من عباده فيوفقه إلى هذه العبادة إلى عبادة قيام الليل.
إن الله تعالى فرضه على نبيه –صلى الله عليه وسلم-في أول مبعثه قيام الليل فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: 1-2] قيام لله تعالى بخشوع وذل وإخبات وذكر، الله –جل وعلا-يقول لرسوله: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًاأَوْ زِدْ عَلَيْهِ﴾ [المزمل:2-3] فذكر ثلاثة أحوال ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ وهذا دون النصف، ﴿نِصْفَهُ﴾ وهذه المرتبة الثانية، ﴿أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ وهذا هو المرتبة الثالثة التي شرع الله تعالى لرسوله أن يصلي في أول بعثته كل هذا ليتحمل أعباء هذه الرسالة العظيمة ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًاإِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ وهذا القول الثقيل يحتاج إلى تهيؤ يحتاج إلى استعداد ولذلك كان قيام الليل من أعظم ما يعين السائرين إلى الله تعالى في سيرهم، أعظم ما يعين الناس في القيام بمهامهم وأعمالهم وأعباء دنياهم وتكاليف دينهم أن يقوموا لله تعالى وقد يقول قائل: كيف يكون ذلك؟
يكون ذلك بأمر من الله –جل وعلا-فإن القيام له من التأثير على القلب إصلاحًا وتزكية، تطيبًا وتطهيرًا ما يتحقق به صلاح القلب، وقد جاء في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ»البخاري(52), ومسلم(1599) إن قيام الليل من أعظم ما يصلح القلوب، ولهذا كان هو المبلغ للسائرين منازل التقوى، منازل الصلاح، منازل البر، منازل العلو، يظهر أثره في قلوبهم، يظهر أثره في أعمالهم، يظهر أثره في وجوههم ولهم من البهاء والنضرة ولهم من القبول والود في قلوب المؤمنين ما ليس لغيرهم، إن قيام الليل عبادة جليلة رفيعة المكان والمنزلة وهي ليست خاصة بزمان ولا خاصة بفترة أو حين، بل هي عامة في كل أيام السنة إلا أن رمضان شهر الصيام له من الخاصية في هذه العبادة ما ليس لغيره من سائر الشهور.
فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «مَن قَامَ رمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِه»البخاري(37), ومسلم(759) الله أكبر يا له من عطاء جزيل، يا له من إنعام واسع، يا له من إحسان تعجز الألسن عن بيانه والإفصاح عنه، إنه عطاء رب العالمين الذي يعطي على القليل الكثير يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «مَن قَامَ رمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِه» ذلك البناء الكبير من الخطايا والاوزار، تلك الذنوب التي أثقلت الكواهل وأعجزت الإنسان عن السير إن هدمها إن نقلها إن زوالها يكون بهذا القيام المبارك «مَن قَامَ رمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِه» ولذلك كان سلفنا الصالح يجتهدون في القيام عمومًا وفي رمضان على وجه الخصوص، وذلك لما فيه من الفضل الكبير والعطاء الجزيل.
فهذا ابن عمر رضي الله عنه كان إذا خرج الناس من المسجد بعد صلاة العشاء في رمضان أمهل حتى إذا انقضوا أخذ مضاءته وتوضأ ثم دخل المسجد فلم يخرج حتى يطلع الفجر, دعاء وصيام، قيام وذكر لله تعالى كما قال الله –جل وعلا-: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ [الزمر: 9] هذا هو القيام الذي يثمر زكاة القلب استقامته، صلاحه هو الباب الذي يدرك به الإنسان الأجور يدرك به الفضائل، لكن ليس ذاك القيام الذي يهذ فيه القرآن فلا يدرى ما فيه من البيان ولا يوقف على ما فيه من العجائب ولا تتحرك به القلوب، إنما هي ركعات وسجدات يقوم بها الناس عجلى ثم ينصرفون ولم يؤثر ذلك في قلوبهم ولا أعمالهم.
يقص حذيفة رضي الله عنه صورة من قيام النبي –صلى الله عليه وسلم-ولم يذكر أنه قيام في رمضان، إنما ذكر أنه قيام من جملة قيامه –صلى الله عليه وسلم-، صلى ذات ليلة مع النبي –صلى الله عليه وسلم-يقول: فافتتح البقرة ثم قرأ النساء ثم قرأ آل عمران مسلم(772) ثلاث من أطول السور يقرأها رسول الله –صلى الله عليه وسلم-في ركعة ومع حذيفة فكيف كانت قراءته؟ هل كانت قراءة عجلى يهذ فيها القرآن هذا؟ لا إنما كان يقول حذيفة: فكان لا يمر بآية تسبيح إلا سبح، ولا سؤال إلا سأل ولا استعاذة إلا تعوذ هكذا هي القراءة التي تثمر قيامًا يبيض الوجوه ويصلح القلوب وتستقيم به الأحوال.
ولهذا جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما في الصحيح يقول: «قَرَأْتُ المُفَصَّلَ اللَّيْلَةَ فِي رَكْعَةٍ، فَقَالَ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ ؟ البخاري(775), ومسلم(822) ثم في رواية «لَا تَهُذُّوا الْقُرْآنَ، كَهَذِّ الشِّعْرِ، وَلَا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ، وَقِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ» مصنف ابن أبي شيبة(8733) وهو ما أشار إليه في رواية الصحيح قال: «إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ». مسلم(822).
إذًا هذا هو الذي ينفع أجرًا ومثوبة هذا هو الذي ينفع تزكية وإصلاحًا، هذا هو الذي ينفع قوة للبدن وصحة ولهذا يقول الحسن البصري –رحمه الله-في بيان حال السلف في إقبالهم على القرآن وحرصهم على الأخذ منه قال: "لأمر ما سهروا"مختصر قيام الليل, للمَرْوَزِي, ص(24) يعني لن يسهروا عبثًا، إنما سهروا لأمر ما والله تعالى يصف كيف هي حال المتقين في تشوفهم وتوق نفوسهم إلى هذه العبادة يقول –جل وعلا-: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ [السجدة: 16] الله أكبر تصور تتجافى الجفاء هو البعد وهذه الجنوب إذا جاءت على أسرتها وفرشها لا تسكن إذا كان القلب حيًا تتجافى أي: تبعد وتنأى لماذا؟ لما أدركته من لذة مناجاة رب الأرض والسماء لما أدركته من القيام بين يدي ملك الملوك جل في علاه.
ولهذا كانت صلاتهم كما قال الله تعالى في وصف حال المؤمنين المتقين ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾ [الذاريات: 17] إذا فرغوا من صلاتهم فما هي شأنهم؟ ﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات: 18] إنهم كانوا بين إقبال على الله تعالى بالثناء والتقديس القولي والفعلي بالسجود والركوع وسائر أعمال الصلاة المباركة ثم إذا فرغوا لم يكونوا في غفلة، بل كانوا مستغفرين ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23] إنه من المهم أن نترجم هذه المعاني في قيامنا وألا يكون همنا هو أن نستكمل عددًا معينًا أو أن نستكمل قراءة معينة أو أن نستكمل شيئًا في أنفسنا ونغفل عن المعاني والأسرار.
عائشة تقول: «ما كانَ يَزِيدُ في رَمَضَانَ ولَا في غيرِهِ علَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً»لكن تصف كيف كانت صلاته –صلى الله عليه وسلم- «صَلِّي أرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فلا تَسْأَلْ عن حُسْنِهِنَّ وطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أرْبَعًا، فلا تَسْأَلْ عن حُسْنِهِنَّ وطُولِهِنَّ»البخاري(1147), ومسلم(738)ثم يوتر بثلاث –صلى الله عليه وسلم-هكذا كان النبي –صلى الله عليه وسلم-وقد قام بأصحابه ومن أراد أن يحقق هذه الفضيلة في رمضان أن يحرص على صلاة التراويح التي هي من أسباب حصول القيام، وليست حصرًا يعني لو قام الإنسان بنفسه في بيته لأدرك الفضيلة لكن صلاته مع إمامه حتى ينصرف يكتب له به قيام ليلة كما جاء في السنن والمسند من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
وقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم-يطيل القيام حتى إنه قام بأصحابه ليلة ثلث الليل، ثم ليلة شطر الليل، ثم ليلة قام أكثر الليل حتى يقول النعمان بن بشير رضي الله عنه:" فخشينا ألا ندرك الفلاح"أخرجه أبو داود (1375)، والترمذي (806)، والنسائي (3/ 202)، وابن ماجه (1327) أي ألا ندرك السحور من طول قيامه –صلى الله عليه وسلم-.
ينبغي لنا أن نغتنم هذه الفرصة وأن نربي أنفسنا على صلاة الليل التي هي أعظم معين لنا فيما نستقبل من أمور ديننا وأمور دنيانا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾ [البقرة: 153] فالصلاة عون للعباد على تلقي كل ما يكون في هذه الدنيا وبلوغ ما يأملنا في الآخرة، بهذا كان النبي –صلى الله عليه وسلم-إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
اللهم إنا نسألك صلاة ترضى بها عنا، اللهم اجعلنا ممن يقوم رمضان إيمانًا واحتسابًا، وفقنا فيه إلى صالح العمل وأعنا فيه إلى ما تحب وترضى من القول والشأن, أقول هذا القول وأسأل الله لي ولكم القبول، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.