الحمد لله الذي له الحمد كله أوله وآخره، ظاهره وباطنه، لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله بعثه الله بين يدي الحق بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:
ففي قول الله –جل وعلا-: ﴿فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾[البقرة: 187] بيان لما يحصل به الصيام، فإن الله –جل وعلا-فرض على المؤمنين الصيام بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾[البقرة: 183] وقال –جل وعلا-: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185] ولقد كان الصيام معروفا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عرفه الناس قبل أن تأتي هذه الشريعة فهو مما شرعه الله تعالى للأمم المتقدمة، فكان الصيام شائعًا معروفًا بين الناس حتى أن النبي –صلى الله عليه وسلم-كان يشهد صيام قومه لعاشوراء كما جاء في الصحيح أن قريشًا كانت تصوم عاشوراء قبل هجرة النبي –صلى الله عليه وسلم- مسلم(1125) فالصيام من حيث العلم به كان معلومًا إلا أن هذه الشريعة بينت شيئًا مما يتصل بالصيام من حيث أحكامه المتعلقة بالامتناع وكذلك بينت الأجور المترتبة على هذا الفعل وبينت أشياء عديدة تتعلق بهذه العبادة.
فالصيام ركن من أركان الإسلام وقد جاء بيانه في الكتاب والسنة، وهو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وهذا ما دلت عليه الآية الكريمة حيث قال –جل وعلا-: ﴿فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ [البقرة: 187] وأشار هنا إلى وقت الليل ﴿فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: 187] فقوله: ﴿فَالآنَ﴾ هذا بيان لتشريع هذا الحكم في ذلك الأوان والزمان وهو الوقت الذي جرى فيه من تخفيف الحكم على أمة الإسلام ما صار فيه الصيام محددًا الابتداء بعلامة تولية ظاهرة يتفق فيها الناس وهو طلوع الفجر وينتهي بعلامة كونية ظاهرة يدركها المبصرون وهي غروب الشمس.
وبهذا يتبين أن الصوم هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وقد تكلم العلماء رحمهم الله عن المفطرات وهذه الآية تضمنت أصول المفطرات فإن الله تعالى ذكر فيها ثلاثة أمور هي بمثابة الأصول التي يرجع إليها كل مفطر وهي مما اتفق عليه العلماء.
أول هذه الأمور التي تضمنتها الآية الجماع ﴿فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ [البقرة: 187] أي باشروا نساءكم والمقصود بالمباشرة هنا الجماع لا مجرد إلصاق البشرة بالبشرة أو الاحتكاك والتمتع بما حل الله تعالى دون الجماع إنما المقصود بالمباشرة في قول إجماع أهل العلم أنه الجماع.
وثاني المفطرات التي ذكرها العلماء وجاءت في هذه الآية هو الأكل، والثالث هو الشرب.
وهذه الأمور الثلاثة هي أصول المفطرات التي تضمنتها الآية وقد اتفق عليها علماء الأمة لا خلاف بينهم أن من أكل في نهار رمضان أو شرب في نهار رمضان أو جامع في نهار رمضان قد فسد صومه إذا كان عاقلًا إذا كان ذاكرًا مختارًا فإنه لابد من الذكر ومن الاختيار حتى تترتب الأحكام.
إذًا بهذا يتبين لنا أن أصول المفطرات ثلاثة تضمنتها هذه الآية وجاء في حديث أبي هريرة تأكيد لهذا المعنى في قول النبي –صلى الله عليه وسلم-في قول الله تعالى: «الصوم لي وأنا أجزي به»البخاري(1904), ومسلم(1151) قال: يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي وهذا يدل على أن ترك هذه الأشياء مما يكون في الصيام، وأيضًا في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري –رحمه الله-قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ» البخاري(1903) فذكر النبي –صلى الله عليه وسلم-في هذه الأحاديث أصول المفطرات التي جاء ذكرها في الآية الكريمة وهي محل اتفاق كما تقدم.
يضاف إلى هذا سبب رابع حكى بعض أهل العلم الإجماع على أنه من المفطرات وهو إخراج ما في الجوف اختيارا وهو الاستقاءة بأن يخرج ما في جوفه مختارًا، وهذا جاء فيه الحديث الذي رواه أحمد وأصحاب السنن أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «من ذرعَهُ القيءُ فليس عليه قضاءٌ»من زرعه يعني من غلبه فخرج من غير اختياره «ومن استقاء» أي طلب إخراج ما في جوفه «فَلْيَقْضِ»أخرجه أبو داود (2380)، والترمذي (720), وابن ماجه (1676) ، هذا الحديث أصله إضافة إلى الإجماع المنعقد على أن من أخرج ما في جوفه فإنه قد أفطر، وإن كان في حكاية الإجماع في هذه القضية مناقشة لكنه درج في كلام كثير من يحكم الإجماع أن الاتفاق منعقد على أن إخراج ما في الجوف اختيارًا مما يحصل به الفطر.
خامس المفطرات المتفق عليها خروج دم الحيض بالنسبة للمرأة وهذا مفطر خاص بالنساء وهو خروج دم الحيض فخروج دم الحيض مما يفسد الصيام ولا فرق في ذلك بين أن يخرج دم الحيض في أول النهار أو في اوسطه أو في آخر أجزائه ولو قبل غروب الشمس بلحظة، فإنه يحصل الفطر بمجرد خروج الدم ودليل ذلك ما في صحيح مسلم من حديث ابن عمرtأن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «تمكث الليالي لا تصلي ولاتصوم» مسلم(79) وأيضًا في حديث عائشة رضي الله عنها لما سألتها معاذة: ما بالنا نقضي الصوم ولا نقضي الصلاة قالت: كنا نؤمر بذلك. البخاري (321), ومسلم(335)
من المفطرات التي عدها بعض أهل العلم وهي محل إجماع الردة: وهذا مما يكتمل به نسق وعد المفطرات, وفي عد الردة نوع تجوز لأنه أمر ينهدم به البناء كله ينهدم به الإسلام وليس فقط مفسدًا للصوم على وجه الخصوص فلنقتصر على هذه الخمسة التي هي محل اتفاق واجماع عند أهل العلم في الجملة وهي الجماع والأكل والشرب وخروج دم الحيض ومثله النساء النفاس بالنسبة للمرأة والاستقاء وهو إخراج ما في الجوف هذا القسم الأول من المفطرات وهو القسم المتفق عليه.
هناك قسم آخر وهو ما يعرف بالمختلف فيه من المفطرات:
وتحت هذا القسم عدد كبير من المسائل التي ذكرها الفقهاء سواء في قديم الزمان أو في حديثه مما جد به العصر ونزل في حياة الناس من المسائل المعاصرة التي اختلف الفقهاء رحمهم الله هل هي من المفطرات أو لا؟
فعلى سبيل المثال ما يذكره الفقهاء من الحقنة وهي إيصال شيء إلى الجوف من طريق الدبر، أو التقطير في مجري البول كما يذكره بعض الفقهاء أو الكحل أو وصول شيء إلى الجوف من طريق الأذن وسائر المنافذ الأخرى غير المعتادة وهي الفم والأنف هل هذا مما يحصل به الفطر أو لا؟ هذا معترض خلاف ومسألة يدور فيها أخذ ورد بين أهل العلم بين من يقول إنه يفطر، بين من يقول إنه لا يفطر.
ولهذا خروجا من أن ندخل في تفاصيل هذه المسائل وإرهاق الذهن بحكاية الأقوال والترجيحات نقول قاعدة هو أصل يبنى عليه أصل الباب كله وهو: أنه (لا يجوز إثبات شيء من الأشياء أنه مفطر إلا ببينة أو برهان) هذه القاعدة التي ينبغي أن نعرفها حتى نخرج من إشكالات كثيرة ونجيب عن أسئلة واردة كثيرة شم رائحة الطيب، التطيب للصائم، خروج الدم على سبيل المثال بالجرح أو نحوه مسائل عديدة وكثيرة يسأل عنها الناس وهي من محال الإشكال عندهم هل هي مفطرة أو لا؟
الجواب كل من أثبت حكمًا بالفطر في شيء من الأشياء لابد أن يبني ذلك على أصل وعلى قاعدة حتى يعرف ما يكون من المفطرات مما لا يكون وبهذا يخلص الإنسان من إشكالات كثيرة ومن تشغيبات كثيرة وفي أقوال قد لا تستند في كثير من الأحوال إلا إلى نوع من القياس البعيد الخفي الذي لا يصلح اعتماده في إثبات الأحكام.
ولهذا ينبغي العلم بأن الأصل في المفطرات أن يكون مستندًا في القول بالفطر إلى دليل من الكتاب أو من السنة أو القياس الجلي الظاهر الذي لا يلتبس ولا يختلف.
فعلى سبيل المثال إذا بحثنا في مسألة الإبر كنموذج من النماذج التي وقع فيها الخلاف بين العلماء المعاصرين.
الإبر: من أهل العلم من يقول إن الإبرة إذا كانت تصل إلى الجوف فإنها مفطرة سواء كانت مغذية أو لم تكن مغذية لا فرق بين ذلك لحصول الفطر؛ لأن الفطر مناطة هو وصول شيء إلى الجوف والجوف هو المناطق التي فيها تجويف في البدن وإذا نظرنا إلى المناطق التي فيها تجويف في البدن وجدناها هي منطقة الرأس ومنطقة الصدر والبطن هذه هي المنطقة الجوفية التي تسمى ويصدق عليها كلام الفقهاء رحمهم الله أنها جوف، فقالوا إذا وصل شيء إلى الجوف من أي طريق سواء كان مغذيًا أو غير مغذي فإنه مفطر.
وذهب طائفة من أهل العلم إلى أنه لا عبرة بوصول الشيء إلى الجوف، لأنه لا يصدق على أنه لا يصدق على أنه أكل أو شرب ما لم يكن هذا أكلًا أو شربًا أو يقوم مقامهما فإنه لا يفطر، ولهذا قالوا إن هذه الإبر وهذه المغذيات إذا لم تكن كافية عن الطعام والشراب فإنها لا تفطر، وهذا قول جمهور المعاصرين، ومنهم من قال: إنها مفطرة على كل حال، ومنهم من قال: إنها لا تفطر بحال من الأحوال. الشرح الممتع(6/369),مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (15/ 257), مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين -رحمه الله- (19/ 213), مجلة مجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي قرار رقم: 99/ 1 / د 10.
إذًا هي ثلاثة طرق ومناهج في تعاطي الحكم في هذه المسألة، ولسنا في صدد الترجيح والموازنة إنما هذا تمثيل لقائمة كبيرة وكثيرة وطويلة من المسائل التي ترد على أذهان الناس ويسمعون فيها كلام المختلفين من أهل العلم فمن قائل أنها تفطر ومن قائل أنها لا تفطر، لكن المرجع في ذلك كله إلى أن ما من شيء يثبت الحكم بأنه مفطر إلا ولابد أن يستند إلى أصل أو دليل.
هذا هو منتهى ما يمكن أن يقال في مسألة المفطرات التي تصنف بأنها مفطرات حسية وهي تنقسم إلى قسمين مسائل متفق عليها ومسائل مختلف فيها وأجملنا القول في هذه المسألة وهي داخلة في قوله –جل وعلا-﴿فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [البقرة: 187] أي اطلبوا ما أحل الله لكم فما كتب هنا أي ما أحل ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: 187] وبه نعلم أنه فيما يتعلق بالإمساك أناط الله تعالى الحكم بالتبين وهو أن يتبين الإنسان أن الفجر قد بان وظهر، والتبين إما أن يكون أن يباشر ذلك بنفسه أو يستند فيه إلى خبر الثقة الذي يعتمد قوله سواء كان قوله معتمدًا على الحساب أو كان معتمدًا على الرؤية، فإنه لا حرج في اعتماد هذا أو ذاك وفيما إذا كان الإنسان شاكًا مترددًا، فالأصل بقاء الليل حتى يتحقق طلوع الفجر وعند ذلك يجب عليه الإمساك تعبدًا لله تعالى عن المفطرات من تبين الفجر إلى غروب الشمس والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.