الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، أحمده جل في علاه لا أحصي ثناء عليه كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صفيه وخليله وخيرته من خلقه بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:
فيقول ربنا –جل وعلا-: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾[الأعراف: 55] هذه الآية الكريمة يأمر الله تعالى فيها عباده بالدعاء، والدعاء هنا وفي كل القرآن يشمل معنيين؛ المعنى الأول دعاء المسألة، والمعنى الثاني دعاء العبادة.
دعاء العبادة هو الصلاة والصيام والزكاة والحج في أعمال الظواهر، الإخبات، التعظيم، المحبة، الإجلال، الخوف، الرجاء في أعمال القلوب هذه كلها من دعاء الله تعالى لكنه دعاء عبادي.
النوع الثاني دعاء مسألة وهو دعاء المضطرين دعاء المحتاجين، دعاء الطالبين، دعاء السائلين، كل هذا من دعاء المسألة ربنا -جل وعلا-يقول: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف: 55] جل في علاه ذكر الله تعالى لدعائه حالين ينبغي أن نفتش عنهما في أنفسنا وأشار إلى حال ثالثة ينبغي أن ننأى عنها وأن نبعد يقول الله –جل وعلا-: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف: 55] التضرع مأخوذ من الضرع وهو حال في الأصل لبعض الحيوان الذي يرخي رأسه ويطلب العون والطعام من زرع أمه هذا معناه في اللغة وقد نقل في الاستعمال اللغوي إلى بيان حال من الذل والانكسار والانطراح بين يدي الله تعالى.
فالتضرع الذي أمر الله تعالى به في قوله: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا﴾ [الأعراف: 55] أي على حال من الذل والانكسار والافتقار والملق لله –جل وعلا-الملق أي التملق له –سبحانه وبحمده-الانكسار بين يديه أعظم ما يدخل به العبد على ربه –جل وعلا-وينال مسئوله ومطلوبة أن يظهر فاقته وحاجته، أن يظهر ملقه لربه –جل وعلا-إياك أتملق فتقبل ملقي يا ربي, يسأل الله تعالى بأنواع من الذل والانكسار، بهذا يتحقق التضرع.
الثاني من الأحوال التي ذكرها الله تعالى بدعائه خفية وفي بعض القراءات خيفة، خيفة معناها من غير إظهار وإجهار خفية في الصوت، خفية في السؤال، خفية في الثناء، خفية في المكان، ولذلك كان أعظم الدعاء عندما يكون الإنسان ساجدًا لأنه حال يخفى فيها عن كل الناس، فإنها وأقصد بالخفاء هنا يخفى عن كل الناس قولًا لا يدرون ماذا يقول في سجوده فإنه لا يشرع رفع الصوت في السجود رفعًا يسمع الناس فيدري الناس ما تسأل الله تعالى.
ولهذا ينبغي أن يكثر الإنسان من دعاء الله تعالى في الخفاء، فالخفاء أقرب إلى الإجابة، الخفاء أقرب إلى الإخلاص، الخفاء أقرب إلى الذل والانكسار، ولهذا قال النبي –صلى الله عليه وسلم-لأصحابه كما في الصحيحين من حديث أبي موسى «أَربِعوا على أنفسِكم» أي لا تشقوا عليها لما رفعوا أصواتهم بالذكر والدعاء فإن الذي تدعون سميع مجيب «فإنَّ الذي تَدعونَ أقرَبُ إلى أحدِكم مِن عُنُقِ راحلتِه»البخاري(6384), ومسلم(2704).
إذًا هكذا ينبغي أن يكون الداعي بين حالين كلاهما تظهره تمام الافتقار والذل والاطراح بين يدي الرب –جل وعلا- ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف: 55] ثم قال مشيرًا إلى حالة ينبغي أن ننأى بأنفسنا عنها إنها حال المعتدين ﴿إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف: 55] يقول ابن عباس المعتدين في الدعاء وغيره، يعني الاعتداء المذكور هنا هو فيما أمر الله تعالى به والاعتداء هو تجاوز الحد الخروج عن الهدي والسند المستقيم.
ولهذا تقول: تعدى فلان على فلان أي تجاوز الحد معه إما في قوله، وإما في فعله، وإما بالاعتداء عليه في ماله أو أرضه أو ما إلى ذلك، أنه لا يحب المعتدين وإذا كان لا يحبهم فلن يجيبهم ولن يعطيهم نوالهم ولو دعوا ولو سألوا ولهذا من المهم أن نحذر من الاعتداء في الدعاء، فإن الاعتداء في الدعاء من أسباب منع الإجابة، والاعتداء في الدعاء حذر منه النبي –صلى الله عليه وسلم-وأخبر أنه سيكون في أمته قوم يعتدون في الدعاء، ففي السنن وأحمد من حديث عبد الله بن مغفل قال رضي الله عنه قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «إنَّه سيَكونُ في هذه الأُمَّةِ قومٌ يَعتَدونَ في الطُّهور» أي الوضوء «والدُّعاءِ»أخرجه أبو داود (96), وابن ماجه (3864)، وأحمد (16801)، وابن حبان (6764)وأخبر بهذا أيضًا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في السنن والمسند أخرجه أبوداود(1480),وأحمد (1483) و (1584) وهذا يدل على تحذير النبي –صلى الله عليه وسلم-من الاعتداء في الدعاء، فكيف يكون الاعتداء في الدعاء؟
الاعتداء في الدعاء يكون من جهات عديدة، ممكن أن نجملها في ثلاث جهات وهي جوامع؛
الأمر الأول: الاعتداء في حال الداعي.
الأمر الثاني: الاعتداء في صفة الدعاء والسؤال.
الأمر الثالث: الاعتداء في المسئول والمطلوب.
إذًا عندنا الآن ثلاثة أمور كلها يمكن أن تندرج تحت الاعتداء الذي قال فيه –جل وعلا-: : ﴿إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف: 55] الاعتداء في حال الداعي أن يدعو وهو مستبعد الإجابة مسيء الظن بربه أن يدعو وهو مستعجل في الإجابة إلى درجة أن يستحسن ويدع الدعاء كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «يُستجابُ لأحدِكم ما لم يعجَلْ» البخاري(6340), ومسلم(2735)هذه صورة من صور الاعتداء في الدعاء وهي صورة لأمر باطن لا يظهر، لأن حسن الظن بالله تعالى أمر تكنه القلوب ولا تظهره الألسن إنما هو ما في مكنونات الضمائر والأفئدة.
ولهذا ينبغي للعبد أن يحذر من الاعتداء في الدعاء في باطنه.
النوع الثاني من الاعتداء في الدعاء هو الاعتداء في صفة السؤال وصيغته بأن يجهر ويصيح في دعائه وهذا مشاهد من كثير من الداعيين لاسيما في دعاء القنوط في رمضان على سبيل المثال، أو دعاء القنوط عند النوازل يجهر رفعًا عاليًا أين هذا عن قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «ارْبَعُوا علَى أنْفُسِكُمْ، فإنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أصَمَّ ولَا غَائِبًا، إنَّه معكُمْ إنَّه سَمِيعٌ قَرِيبٌ»البخاري(6384), ومسلم(2704) أين هؤلاء عن هذا؟ إنه من الأدب عندما تسأل أن تكون ذا صوت خفيف في سؤالك.
أنت الآن لو يأتيك شخص يقول: أعطني، هب لي، خذ مني، افعل بي، لا شك إن هذا مما تنفر منه نفسك ولله المثل الأعلى فكل أدب مع الخلق الله أولى به جل في علاه، فينبغي أن يتأدب معه –سبحانه وبحمده-في السؤال ولهذا يقول: ﴿إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف: 55] بعد أن ذكر حالين للداعي والاعتداء يتضمن تخلف هاتين الحالين ومنها ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف: 55] هذا من صور الاعتداء في السؤال في صيغته وصفته ومنه أيضًا أن يدعو بدعاء مسجوع يتكلف فيه السجع يتكلف فيه نسق ونسج الكلام دون مضمونه ودون النظر إلى معناه، ومن أيضًا الاعتداء في صفة الدعاء أن يسرف في بعض التفصيلات التي يسأل الله تعالى وهذا مما جاء عنه النهي في كلام السلف الصالحين وهذا نوع من الإسراف في صفة الدعاء ونوعه وإن كان يمكن أن يندرج تحت القسم الثالث لكن المسألة فيها مراوحة بين هذين يمكن أن تصنفه في الصنف الثاني من الاعتداء، أو في النوع الثاني من الاعتداء في الدعاء ويمكن أن يدخل في النوع الثالث من الاعتداء في الدعاء.
عندنا الآن النوع الثالث من أنواع الاعتداء في الدعاء، الاعتداء في مضمون السؤال فعلى سبيل المثال الذي يسأل الله تعالى أن يجعله نبيًا هذا من الاعتداء في الدعاء لأن هذا لا يكون شرعًا ولا يكون في فعل الله تعالى ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب: 40] .
من الاعتداء في الدعاء أن يسأل شيئًا مستحيلًا قدرًا كأن يسأل الله تعالى أن يجعل له جناحين يطير بهما وما أشبه ذلك وأيضًا من الاعتداء في السؤال التفصيل الذي أشرنا إليه قبل قليل ضمن الصفة وهو ما جاء مثاله فيما رواه أبو داود وأحمد من حديث عبد الله بن مغفل أنه سمع ابن له يقول: اللهم إنِّي أسألُكَ القَصرَ الأبيَضَ عن يمينِ الجنَّة إذا دخلتُها، فقال: أيْ بُنَيَّ، سَلِ اللهَ الجنَّةَ، وتعوَّذ به مِنَ النَّار، فإني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ويقول: "إنَّه سيكونُ في هذه الأمَّةِ قومٌ يَعتَدونَ في الطُّهور والدُّعاء". أخرجه أبو داود (96), وأحمد(16801) .
أيضًا حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما سمع ابن له يقول: اللهُمَ إني أسالُكَ الجَنَةَ ونعيمَها وبهجَتها، وكذا وكذا، وأعوذُ بكَ من النَارِ وسلاسِلها وأغلالِها، وكذا وكذا، فقال: يا بُنيَّ إني سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلم - يقول: "سيكونُ قوم يَعتَدونَ في الدُّعاء" فإياكَ أن تكونَ منهم إنَّك إن أعطيتَ الجنة، أُعطيتَها وما فيها من الخير، وإن أُعِذْتَ من النار، أُعِذْتَ منها وما فيها مِنَ الشَّرِّ.أخرجه أبو داود (1480).
وهذا معناه إن هذا التفصيل الذي يجعله بعض الناس في دعائهم هو خارج عن هدي المستقيم وسنن خير المرسلين –صلى الله عليه وسلم-.
ولهذا ينبغي الحذر من هذا وبعض الناس يجعل الدعاء موعظة أو خطبة وهذا ليس من هدي النبي –صلى الله عليه وسلم-فالدعاء هو طرح المسألة وطرح المسألة إما أن يكون بتعظيم الرب والثناء عليه، وإما أن يكون بوصف الحال والافتقار إليه، وإما أن يكون بتسمية الحاجة وأنا أقول لن نبلغ في كل هذا خيرًا ولا إجمالًا ولا إتقانًا مما كان عليه لسان من لا ينطق عن الهوى النبي –صلى الله عليه وسلم-.
فخير الأدعية أدعية الرسول –صلى الله عليه وسلم-ولهذا أنا أقول يا إخواني ويا أخواتي احرصوا على اقتناء المأثور عن النبي –صلى الله عليه وسلم-من أدعيته فإنه جامعة لكل خير من خير الدنيا وخير الآخرة، جامعة لكل ثناء فمهما أطلب المثلون بألسنتهم وفصلوا في ثنائهم لم يبلغوا ما بلغه النبي –صلى الله عليه وسلم-في ثنائه لربه فهو أعلم الخلق بربه، ولم يترك خيرًا إلا دلنا عليه.
لهذا أقول لنحرص على تحقيق هذه الأوصاف التي يتحقق بها إجابة الدعاء ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف: 55] .
اللهم إنا نعوذ بك أن نكون من المعتدين في كل شأننا ونسألك الهداية والصراط المستقيم في كل أحوالنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.