الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، أحمده جل في علاه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:
فيقول الرب جل في علاه: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186] الله أكبر آية عظيمة كريمة، آية فيها من كشف عظيم إحسان الله تعالى وجليل عطائه ما تفرح به قلوب المؤمنين ما تشحن به نفوسهم رغبة فيما عند الله تعالى وإقدامًا على عطاء لا حد له عطاء جزيل لا يبلغه وصف ولا يدركه بيان، ذكره الله جل في علاه هذه الآية المحكمة الكريمة في ثنايا آيات الصيام في تلك العبادة التي قال فيها جل في علاه في الحديث الإلهي الذي يرويه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة «الصوم لي وأنا أجزي به» البخاري(1904), ومسلم(1151) إنه عطاء كبير وفضل عظيم يمن الله تعالى به على عباده بفتح باب العطاء لهم في هذه العبادة.
ولهذا أخذ جماعة من أهل العلم من هذه الآية وفي موضوعها وذكرها بين آيات الصيام أن الصيام من موجبات إجابة الدعاء؛ فإن الله تعالى ذكر هذه الآية في ثنايا آيات الصيام حيث ذكر الله تعالى فرضه ثم ذكر –جل وعلا-ما الذي يمسك عنه ويصام, بينهما ذكر دعاءه وسؤاله؛ هذا تنبيه لكل صاحب قلب حي أنه عندما يصوم يسأل الله تعالى فضلًا وعطاء يرجو منه برًا ونوالًا.
فهذا الصوم ليس صومًا فارغًا عن معناه، ليس إمساكًا عن مطعوم ومشروب وملاذ ومناكح لمجرد الإمساك، ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾[النساء: 147] إنما هو صيام يتعرض فيه العبد لنفحات ربه ويقرب فيه من جلاله وإحسانه وبره وعطائه –سبحانه وبحمده-.
لهذا يقول الله تعالى لنبيه –صلى الله عليه وسلم-في هذه الآية الكريمة الرقيقة اللطيفة ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾[البقرة: 186] انظر هذه الآية الحكيمة أسقط الله تعالى فيها الواسطة بينه وبين عباده فأخبر –جل وعلا-عن سؤال قوم رسول الله –صلى الله عليه وسلم-عن الله وقد جاء في الأثر في الطبراني وغيره أن رجلًا من حديث جرير أن رجل سأل النبي –صلى الله عليه وسلم-فقال يا رسول الله: «ربنا أقريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟» أخرجه الطبري في تفسيره ح(2904) هل هو قريب منا فنناجيه ونتحدث معه –جل وعلا-حديث النجوى أو بعيد فنناديه فنرفع أصواتنا ونعلي كلامنا ليبلغه ويسمعه؟
قال النبي –صلى الله عليه وسلم-في جواب هذه المسألة قول الله –جل وعلا-: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾[البقرة: 186] فالله –جل وعلا-يجيب هذا السائل بأنه قريب ولما ذكر الجواب لهذا السؤال الذي أخبر عنه –جل وعلا-الله تعالى أخبر في هذه الآية عن سؤال وجه إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-وفي غالب الأحوال أن الله تعالى يأمر رسوله –صلى الله عليه وسلم-في هذا المقام بالبلاغ فيقول له قل يا محمد إني قريب، لكنه في هذا المقام الذي يسأل فيه العباد عن ربهم جل في علاه لم يكن هناك في التبليغ واسطة، بل تولى الله –جل وعلا-البيان والتبليغ فقال: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾[البقرة: 186] وقال: إني خطاب من الله ما قال: فإنه قريب إنما قال: فإني قريب يخاطب الله تعالى بنفسه عباده ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾[البقرة: 186] يا لها من منة تبين عظيم إحسان الرب –جل وعلا-عظيم رحمته، عظيم بره، عظيم كرمه وجوده، عظيم رأفته بعباده والله هو الغني الحميد جل في علاه نحن الفقراء إليه –سبحانه وبحمده-.
مع هذا ربنا جل في علاه يقول لرسوله في خطاب عباده ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾[البقرة: 186] الله أكبر ما أجل مقام الدعاء، وما أعلاه من منزلة أن يحتفي المؤمن بهذه العبادة الجليلة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-يبين لنا وزن الدعاء ومقامه وشريف منزلته كما في الترمذي من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه يقول –صلى الله عليه وسلم-: «الدعاء هو العبادة» الترمذي(2969), وقال:"حسن صحيح" الله أكبر كلمة مختصرة تبين منزلة الدعاء.
فالدعاء يمكن أن ينشئ فيه الإنسان بيانًا ونثرًا أو شعرًا لإيضاحه وبيان منزلته ومكانته، لكن لن يبلغ هذا الوصف وصف من أوتي جوامع الكلم رسول الله –صلى الله عليه وسلم-يقول: «الدعاء هو العبادة» الترمذي(2969), وقال:"حسن صحيح"وهذا اختصار لبيان منزلة الدعاء والله تعالى يبين لنا منزلة الدعاء وعظيم احتفائه به، فيقول جل في علاه يقول ربنا –جل وعلا-: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾[غافر: 60] الله تعالى يأمر محمد –صلى الله عليه وسلم-أو يبلغ رسول الله –صلى الله عليه وسلم-بقوله: وقال ربكم مع أن القرآن كله قول، لكن في هذا المقام يخبر عن قول خاص يستوجب بلاغًا خاصًا يستوجب عناية خاصة كل القرآن كلام الله، لكن في هذا المقام رسول الله يبلغ عن الله ما قاله ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾[غافر: 60] ادعوني اسألوني أنزلوا بي حاجتكم فهو الغني الحميد جل في علاه، أستجب لكم أي أجيبكم وأبلغكم ما أملتم من النوال وما سألتم من العطاء كريم –سبحانه وبحمده-.
ومن عظيم كرمه وجليل عطائه ما جاء وصفه وبيانه في ذلك الحديث الشريف أشرف حديث لأهل الشام حديث أبي ذر في صحيح الإمام مسلم الذي فيه بلاغ النبي –صلى الله عليه وسلم-عن ربه ما خاطب به عباده فيقول: «يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيتُ كلَّ إنسانٍ منهم مسألتَهُ» مسلم(2577) تصور أطلق لذهنك الخيال وأطلق لفكرك التصور في هذا البلاغ وهذا القول رباني في الحديث الإلهي أولكم وآخركم، إنسكم وجنكم كانوا على صعيد واحد فسألني كل واحد مسألته الله أكبر الآن لو أن الشخص أراد أن يجتمع باثنين أو بثلاثة لله المثل الأعلى لاختلطت عليه المسائل ثم أنه يعجز عن توفية حقوق الناس ومسائلهم في لحظة واحدة، الله رب الأرض والسماء يظهر كبير قدرته وعظيم إحسانه وبره جل في علاه وواسع علمه ورحمته، فيمثل بهذا المثل.
«لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيتُ كلَّ إنسانٍ منهم مسألتَهُ ما نقصَ ذلِكَ ممَّا عندي شيئًا» مسلم(2577) الله أكبر سعة ملك كبير عطاء جليل إحسان يفوق الوصف والبيان إنه بيان الله تعالى وبيان كرم العظيم الجليل –سبحانه وبحمده-.
لذلك ينبغي لكل إنسان أن يسابق إلى هذا المقام مقام الدعاء، مقام الافتقار، مقام الانكسار والسؤال للرب –جل وعلا-ما منا أحد إلا وهو إلى الله فقير، ومن شعر بالغنى فقد ضل السبيل الله –جل وعلا-يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾[فاطر: 15] أنا وأنت، أنا وأنتِ كلنا إلى الله فقراء كلنا في حاجة إلى الله تعالى لا غنى عن فضله من الذي أجرى الدماء في عروقنا؟ من الذي من علينا بالبصر والسمع واللسان وسائر النعم؟ إنه الله جل في علاه.
ولا حول لنا ولا قوة إلا به جل في علاه، ولهذا ينبغي للمؤمن أن يعرف شريف مقام الدعاء وأنه مقام عظيم كبير من غفل عنه فقد حرم خيرًا كثيرًا، والله تعالى من فضله وإحسانه أمر عباده بسؤاله بل توعد المعرضين عن السؤال بالعقوبة والعذاب الأليم قال الله جل في علاه ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾[غافر: 60] إن الذين يستكبرون عن عبادتي أي عن دعائي سيدخلون جهنم داخرين وجاء في السنن من حديث أبي هريرة أنه قال –صلى الله عليه وسلم-يقول الله تعالى أنه قال –صلى الله عليه وسلم-: «مَن لَم يَسألِ اللَّهَ يغضَبْ عَلَيهِ» الترمذي(3373) وهذا في غاية الكرم أن يعرض عليك العطاء وكلنا فقراء والإنسان إذا لم يسر الله تعالى له ليسير ما تيسر لذلك تقول عائشة رضي الله عنها «سلوا الله تعالى كل شيء، حتَّى يَسألَه شِسْعَ نَعْلِه» الترمذي في جامعه ك الدعوات, باب منه (5/ 583) حتى سير النعل حتى الزرة التي تربط بها ثيابك، حتى أدق ما يكون شربة الماء إذا لم ييسرها الله تعالى لم تتيسر وبالتالي نحن بحاجة في غاية الضرورة إلى أن نسأل الله تعالى، ومن ظن أنه عن الله غني فقد أصيب في مقتل لعظيم فقره إلى ربه –جل وعلا-.
إن الصائم مبشر من خلال ما جاءت به هذه الآيات أن الله يجيب دعاءه، ولهذا جاء في كلام العلماء أن في الآيات وذكر الدعاء في آيات الصيام إشارة إلى أن الصائم له مزية في إجابة دعائه وقد جاء مصرحًا به في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «ثلاثة لا ترد لهم دعوة» وذكر منهم الصائم الترمذي(3598) وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «للصائم دعوة عند فطره» الترمذي(1753) إلا أن أسانيد هذه الأحاديث واهية.
ومجموعها مع دلالة الآيات وذكر الدعاء يعضد ويقوي حظ الصائم ونصيبه في إجابة دعائه ولهذا ينبغي ألا يحرم نفسه أن ينزل بالله تعالى حاجته وأن يسأله من خير ما منا أحد إلا وله حاجة ما منا أحد إلا وله هم ما منا أحد إلا وله أمل تلك الحاجات وتلك الهموم وتلك الآمال إنما تقضى ممن بيده ملكوت السماوات والأرض
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا لذة دعائه ومناجاته وعبادته، وأن يجعلنا من حزبه وأوليائه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.