الحمد لله الذي أنزل الكتاب على عبده ولم يجعل له عوجًا, أحمده سبحانه أحق من حمد وأجل من ذكر, وأشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين, وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:
فالرب جل في علاه يقول في محكم كتابه ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾[البقرة: 185] الله أكبر ما أعظم جلال ربنا –سبحانه وبحمده-إن الله في هذه الآية يبين لعباده مزية هذا الشهر وخصوصية هذا الزمان، فيقول جل في علاه: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: 185] ثم قال جل في علاه ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185] تأمل وتأملي هذه الآية المباركة ربنا يذكر ميزة هذا الشهر وهذا جواب على سؤال قد يكون حاضرًا في أذهان المؤمنين الذين فرض الله تعالى عليهم الصيام وهو: لماذا خص الله تعالى هذا الزمان وهذا الشهر دون سائر الشهور بهذه الخاصية أن جعل صومه مفروضًا على الناس لماذا؟
إن العلة إن السبب في تخصيص هذا الزمان بهذه الميزة له جانبان؛
الجانب الأول: هو خصوصية قدرية كونية ليس فيها أمر ولا نهي وهو أن الله –جل وعلا-اصطفى هذا الشهر من بين سائر الشهور بإنزال القرآن فجعل هذا الشهر محلًا لنزول القرآن.
والخاصية الثانية: أنه شهر يتقرب فيه الناس إلى الله تعالى بألوان القربات شكرًا لله تعالى على أن من بهذه المنة والنعمة.
إذًا نصوم رمضان؛ لأن الله اختاره من بين الشهور، فجعله محلًا لإنزال النور المبين الذي أشرقت به الأرض بعد ظلماتها وهو أيضًا محل للتقرب إلى الله –جل وعلا-شكرًا على هذه المنة والنعمة التي أنعم بها على عباده، فهناك خصوصية قدرية وهي اختيار الله تعالى لهذا الزمان وهناك خصوصية شرعية وهي أننا نصوم شكرًا لله تعالى على إنزال القرآن في هذا الشهر شهر رمضان وهذا إطراء وتذكير بمنزلة هذا الشهر ورفع لمكانة شهر رمضان ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [البقرة: 185] الله أكبر, من الذي أنزل؟ الله, من الذي اختار الشهر؟ الله, من الذي فرض صومه؟ الله جل في علاه, وربك يخلق ما يشاء ويختار.
ليس لأحد أن يتعقب ولا أن يناقش في اختيارات رب العالمين، وفي شرعه سواء كان اختيارًا قدريًا أو كان شرعًا دينيًا يتعبد به الناس، فالله تعالى قد قال: ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ [القصص: 68] كما قال جل في علاه: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص: 68] .
إذًا نحن نصوم هذا الشهر لهذه الخصائص، والله تعالى لما يبين لعباده الأسباب فهو يبين أن هذا الشرع مبني على حكم وغايات وأسرار وليس شرعا خاليًا عن الحكمة، وليس شرعًا لا مجال فيه للعقل والفكر، بل هو شرع قد بناه الله تعالى على أكمل العلل والغايات والأسرار والحكم لكن هذه الأسرار وتلك الحكم لا يقف عليها كثير من الناس، بل يغفلون عنها ويقتصرون فقط على الصور لكن من أدرك إن نحن نصوم هذا الشهر لأنه الشهر الذي أنزل الله فيه القرآن علم السر في تعظيم هذا القرآن، وأن النبي –صلى الله عليه وسلم-كان يعرض القرآن على جبريل في ليلة من هذا الشهر، فكان يعرضه في رمضان مرة وفي العام الذي توفي فيه –صلى الله عليه وسلم-عرضه مرتين.
إن النبي –صلى الله عليه وسلم-كان يقبل على القرآن في هذا الشهر أكثر من غيره؛ لأنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن والله تعالى يقول: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر: 1] وليلة القدر في هذا الشهر ويقول: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: 3-4] .
إذًا كل هذه الخصائص لبيان منزلة هذا الشهر وأنه إنما اختصه الله بهذه الفريضة احتفاء بالقرآن، هذا القرآن ذكر الله تعالى في اوصافه من يرغب النفوس على امتثال أحكامه، فرض الصيام أين جاء؟ جاء في القرآن والله تعالى يقول: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: 185] هذا الوصف للقرآن لبيان عظيم ما اختص به هذا الشهر، فإنه كتاب لم يكن في الكتب من قبله ما يشابهه أو يقاربه فليس له نظير هو الكتاب المبين الذي جعله الله حجة على الناس أجمعين.
وقد قيل: إن جميع كتب رب العالمين أنزلت على الرسل في هذا الشهر، وهذا مزيد تخصيص لهذا الشهر وكان من أعظم ما أنزله الله في هذا الشهر القرآن الحكيم، ولهذا ينبغي للمؤمن أن يعرف أن هذا القرآن بهذه الصفات التي ذكرها الله وهي ثلاثة في هذه الآية هو سبب اكتساب هذا الشهر لهذه المزية ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: 185] وهي صفات للقرآن العظيم فهو هداية للناس ليس لأحد دون أحد، بل للناس عامة.
ثم إنه بينات واضحات جليات تدل على العقائد الصحيحة والأعمال السليمة، ثم فوق هذا وذاك هو فرقان سيف يميز الله تعالى به بين الباطل وبين الحق يفرق الله به بين الملتبسات والمتشابهات فهو الفرقان الذي يميز الخبيث من الطيب كما قال الله تعالى في ثمار التقوى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال: 29] تميزون به بين الحق والباطل، هذا الفرقان هو ثمرة التزام القرآن، ثمرة حفظ القرآن قولًا وعملًا وعقدًا ودعوة، فإنه أعظم ما يفرق الله به بين الحق والباطل ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: 185] ثم قال: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 186] وهذا ذكر للخاصية الشرعية التي خص الله بها هذا الشهر وهو شهر صلاة وشهر صدقة وشهر تلاوة للقرآن وشهر بر وإحسان، لكن الميزة التي ميزته دون سائر الشهور أنه شهر الصيام.
ولهذا قال: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 186] ينبغي لنا ونحن نقرأ مثل هذه الآيات أن نعلم أن ربنا –جل وعلا-له الحكمة البالغة، فهذا القرآن العظيم وهذا الدين القويم من لدن حكيم خبير في كل مفرداته وفي كل شرائعه لكن مما ينفع المؤمن إذا خفيت عليه علة أو غاب عنه سر أو لم يدرك حكمة فيما شرعه الله أن يتأمل وأن ينظر بالمعنى العام والحدقة الواسعة التي تشتمل جميع الشريعة وهي أنه ما من شيء في قضاء الله وما من شيء في اختيار الله وما من شيء في شرع الله إلا وله حكمة.
يقول ربنا جل في علاه: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود: 1] وهذا يجعل المؤمن يستبشر وينشرح صدره في كل ما يمتثله من أمر الله تعالى، وفي كل ما نهى الله تعالى عنه؛ لأنه ينطلق من قاعدة أنه ما من أمر من أوامر الله تعالى إلا والله تعالى له فيها حكمة، وما من نهي نهى الله تعالى عنه إلا والله تعالى له فيه حكمة، وما من اختيار اختاره الله تعالى إلا وله فيه حكمة.
ولهذا لما ذكر الله تعالى الاختيار نزه نفسه فقال: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص: 68] أن يجعلوا له أندادًا أو نظراء أو أشباه في اختياره وحكمه جل في علاه.
هكذا تنشرح نفوس المؤمنين ويقبلون على طاعة الله تعالى مستبشرين فرحين بهذا الشهر، فرحين بما فيه من الخصائص، فرحين بما فيه من المزايا، فرحين بما فيه من الفضائل والعطايا هكذا تقبل القلوب منشرحة وأنا أقول إن من يعبد الله تعالى وهو منشرح الخاطر مقبل على الله تعالى مدرك للحكم والغايات سيكون ذلك من أعظم ما يعينه وينشطه على الامتثال في حين ذاك الذي يفعل الأمر لمجرد الأمر دون أن يدرك غاية وسر وحكمة وعلة ما شرعه الله وقضاه وقدره لا شك أنه سيمتثل بفعله لكنه لن يكون منشرح الصدر مبتهج الخاطر مطمئن الفؤاد بما شرعه رب العالمين ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد –صلى الله عليه وسلم-نبيا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا صيامًا يرضى به عنا، وأن يعيننا وإياكم على الصالحات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.