الحمد لله العزيز الحكيم، أحمده حق حمده لا أحصي ثناءً عليه كما أثنى على نفسه، له الحمد كله، أوله وآخره، ظاهره وباطنه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم: فادعوه بها.
إننا نتحدث عن أسماء الله ـ تعالى ـ وعن التعبد له ـ جل وعلا ـ بهذه الأسماء، في هذه الحلقة ـ إن شاء الله تعالى ـ سنتناول اسماً كريماً شرفاً من أسماء المولى ـ سبحانه وبحمده ـ إنه اسم العزيز، ذلك الاسم الذي ذكره الله ـ جل وعلا ـ في آيات عديدة من كتابه الحكيم، فقد قال الله ـ سبحانه وبحمده ـ في آيات عديدة: ﴿هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[آل عمران:6]، ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[غافر:8].
وقد جاء إثبات ذلك الوصف لله ـ عز وجل ـ في سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه مسلم عندما أخبر عن النار حيث قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لا تزال جهنم –نعوذ بالله منها- يلقى فيها وتقول: هل من مزيد، حتى يضع رب العزة» –أي: صاحبها سبحانه وبحمده، صاحب العزة ـ جل في علاه ـ «حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض فتقول: قط قط»صحيح مسلم (2846) يعني: كفاني كفاني، حسبي حسبي.
هذا الاسم العظيم من أسماء الله ـ عز وجل ـ وهو من الأسماء الشريفة جاء على صيغة المبالغة: عزيز على وزن فعيل.
أما من حيث المعنى فإن هذا الاسم في اللغة يدل على عدة معان، فالعزيز يأتي بمعنى الغالب، ومنه قول الله ـ جل وعلا ـ فيما قصه من قصة المتخاصمين بين يدي داود: ﴿فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾[ص:23] يعني: غلبني في الخطاب. هذا معنى من معاني العزة في كلام العرب.
ومن معاني العزة أيضاً: إطلاق العزة على الشيء الجليل الشريف الرفيع الشأن، كما قال ـ جل وعلا ـ فيما ذكره عن المنافقين: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ﴾[المنافقون:8] أي: الشريف الرفيع ذو المقام العالي، ﴿لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ﴾.
ويأتي لفظ العزة في كلام العرب ويُراد به: القوي الشديد الصلب، ومنه قول الله ـ جل وعلا ـ: ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ﴾[يس:14].
هذه ثلاثة معانٍ كلها تستعمل فيها هذه الكلمة كلمة العزيز.
المعنى الأخير والرابع وهو الشيء النادر قليل الوجود فإنه يسمى عزيز، يقولون: عَزَّ كذا أي: نَدُر وقلَّ في البلد.
هذه المعاني الأربعة هي معاني العزيز في اللغة، وهي المعاني التي تثبت لله ـ عز وجل ـ من هذا الاسم، فالعزيز هو الذي له العزة التامة الكاملة التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه.
يقول ابن القيم رحمه الله في بيان معاني العزة في نظم بديع:
وهو العزيز فلن يرام جنابه أنى يرام جناب ذي السلطان
وهو العزيز القاهر الغلاب لم يغلبه شيء هذه صفتان
أي: من معاني العزة.
وهو العزيز بقوة هي وصفه فالعز حينئذٍ ثلاث معان
وهي التي كملت له سبحانه من كل وجه عادم النقصان
فالله تعالى عزيز عزة قوة وعزة امتناع وعزة قهر ـ سبحانه وبحمده ـ كل هذه المعاني دل عليها قول الله وقول رسوله، فالله ـ تعالى ـ يقول: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾[يوسف:21]، وهذه عزة الغلبة، ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾[يوسف:21]، وقال: ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[المجادلة:21]، وهذه عزة الغلبة أيضاً.
أما عزة علو الشأن ورفعة المقام وعلو القدر فيقول الله ـ تعالى ـ: ﴿لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾[النحل:60] أي: الصفة العليا التي لا يُبلغ منتهاها، فلما كان على هذا المعنى قال: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[النحل:60].
قال ـ جل وعلا ـ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾[الروم:27] يعني: الصفة العليا التي لا يماثله فيها أحد ـ سبحانه وبحمده ـ ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[الروم:27] جل في علاه سبحانه وبحمده.
والله ـ سبحانه وبحمده ـ المتفرد الذي ليس له نظير ولا له مثيل ـ سبحانه وبحمده ـ لذلك يقول: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الشورى:11]، ويقول: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾[الإخلاص:1]، ويقول: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾[الإخلاص:4]، ويقول: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾[مريم:65]، ويقول: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة:22] كل هذه الآيات تدل على معنى العزة وهو أنه ليس له نظير وليس له مثيل، وأنه منفرد ـ جل وعلا ـ بصفة العز سبحانه وبحمده.
إذاً: العز الذي دل عليه وصف العزيز عِزَّة القدرة، عزة القوة والقهر، عزة الامتناع، عزة الصفات ورفعة الشأن وعلو المكانة، كل هذه المعاني ثبتت لله عز وجل.
فالعبد إذا امتلأ قلبه بهذه المعاني علم أن العزة من الله ـ جل وعلا ـ وأنها لا تكتسب إلا من قِبَله ـ سبحانه وبحمده ـ وإذا نظرنا في كلام الله ـ عز وجل ـ علمنا أن العزة التي تصبو إليها النفوس وترغب في تحصيلها القلوب إنما تنال بطاعة الله ـ جل وعلا ـ لذلك يقول الله ـ تعالى ـ في بيان مصدر العزة: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾[المنافقون:8]، فالعزة إنما تكون من قِبَل الله ـ عز وجل ـ يعز من يشاء ويذل من يشاء كما أخبر في محكم كتابه، فالعزة كما أنها صفته فهي فعله ـ سبحانه وبحمده ـ يرفع أقواماً ويضع آخرين، وإنما يرفع من يستحق الرفع ـ جل في علاه ـ ورفعه يكون بأنواع من الأسباب، قد تكون أسباب دنيوية وقد تكون أسباب دينية، والعز الذي لا يزول نفعه ولا يتقضى خيره هو عز الدين والطاعة والإحسان، لذلك قال الله ـ جل وعلا ـ في محكم كتابه: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾[المنافقون:8].
إن المؤمن إذا أدرك أن الله ـ عز وجل ـ هو العزيز ـ سبحانه وبحمده ـ فإنه لن يلتفت في طلب العزة إلى غيره ـ جل في علاه ـ لأنه: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾[فاطر:10]، فتُطلب منه سبحانه وبحمده.
ولا تُسأل من غيره، ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[آل عمران:26]، فالذين يطلبون العزة من سواه أو يتوجهون إلى غيره فإنهم يضربون في عمى ولا يدركون إلا ذلاً وخذلاناً.
واستمع إلى قول الله ـ تعالى ـ: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ﴾[النساء:139] هؤلاء الذين يوالون أعداء الله الذين يحاربون الله ورسله، الذين يكذبون بالكتب والرسالات طلباً للرفعة والعلو والمكانة والقوة والغلبة في الدنيا، كيف يفعلون هذا؟ ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ يعني: هم يفعلون هذا ويسوغون فعلهم أنهم يريدون عزة؟ يقول الله ـ تعالى ـ: ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾[النساء:139]، وعزة كل أحد إنما تكون بقدر علو مرتبته في الدين، هذه قاعدة لا تنخرم، إذا أردت العزة وسمت نفسك إلى أن يرفعك الله ـ عز وجل ـ فاعلم أن رفعتك بقدر ديانتك، كما قال الله ـ جل وعلا ـ: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾[المنافقون:8]، فبِقَدْر ما معك من الإيمان تنال من العز والسنا والرفعة في الدارين، «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع آخرين»صحيح مسلم (817) أي: بهذا القرآن، يرفعهم بحفظه، بتلاوته، بتدبره، بفهمه، بالعمل به، بالدعوة إليه، هكذا يرتفع هؤلاء، وهذه الرفعة لا يلحقها انخفاض، هذه الرفعة لا تزول ولا تضمحل، بل هي لا تزداد مع الأيام إلا ثباتاً، لذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ولا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً»صحيح مسلم (2682)، لأنه كلما زاد أيامه وطالت مدته ازداد إيمانه وطالت أعماله الصالحة فكان ذلك خيراً له في دنياه وفي أخراه.
إن الذين يطلبون العزة بغير دين الله ـ عز وجل ـ يُخذلون، وفي قصة عمر ـ رضي الله عنه ـ لما جاء إلى فتح بيت المقدس عبرة عظيمة، بعض الناس يطلب العزة بجمال الهندام أو بالمنصب أو بالجاه أو بكثرة المال أو بالمناصب أو ما إلى ذلك مما يظن الناس أنهم يرتفعون بهذه الأسباب، لكنهم يخطئون، فالعزة الحقيقية هي عزة القلب بطاعة الله عز وجل.
فعمر -وهو الخليفة- جاء إلى بيت المقدس، فواجه في طريقه إلى أن يصل إلى بيت المقدس مخاضة ماء وطين وما إلى ذلك فنزل عن راحلته ووضع نعله على كتفه ـ رضي الله عنه ـ وقاد ناقته وهو الخليفة، خليفة أكبر دولة في ذلك اليوم، خليفة خليفة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فخاض في ذلك الماء بقدمين حافيتين يقود بعيره أو ناقته دون أن يطلب مساعدة من أحد، فقال أبو عبيدة: لو أنك لم تفعل هذا يا أمير المؤمنين. يعني: هؤلاء الذين ينتظرونك في بيت المقدس من النصارى يهمهم المنظر والمرأى، فقال: لو قالها غيرك يا أبا عبيدة، ثم قال: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعزنا بطاعته، وأن يقينا شر الذل بمعصيته، وأن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى، أسألك يا ربنا تقواك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك أن ترضى عنا بما أنت أهله من الكرم والإحسان إنك على كل شيء قدير، وأصلي وأسلم على البشير النذير نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم: فادعوه بها، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.