الحمد لله رب العالمين، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، له الحمد كله، أوله وآخره، ظاهره وباطنه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فأهلاً وسهلاً بكم أيها الإخوة والأخوات، حياكم الله في هذا البرنامج: فادعوه بها.
وفي هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج سنتناول شيئاً مما يتصل باسمين جليلين كريمين ذكرهما الله ـ تعالى ـ في كتابه مقترنين في ثلاثة مواضع هما اسما: الحي القيوم، وهما من الأسماء الحسنى العظيمة الجليلة لله ـ عز وجل ـ وقد وردا مقترنين في كثير من المواضع، في القرآن في ثلاثة مواضع، وفي السنة في مواضع عديدة.
وهذان الاسمان معناهما: إثبات كمال الوصف لله ـ عز وجل ـ في ذاته ـ سبحانه ـ وفي أفعاله، فالحي يثبت كمال صفات الذات من العلم والسمع والبصر والقدرة والقوة والكلام وغير ذلك من صفات الذات، كما أن القيوم يثبت كمال صفات الفعل، كالمحبة والرضا والغضب وغير ذلك من الصفات التي تقوم به ـ جل وعلا ـ وهي من أفعاله سبحانه وبحمده.
فالحي القيوم اسمان يتضمنان وصفين لله ـ جل وعلا ـ وهما في أعظم آية ذكرها الله ـ تعالى ـ في كتابه في آية الكرسي، واقترانهما يدل على أن هذين الاسمين باقترانهما يحصل الكمال في وصف الله ـ جل وعلا ـ وفي ما أخبر به عن نفسه سبحانه وبحمده.
إن هذين الاسمين العظيمين لله ـ عز وجل ـ قيل: إنهما الاسم الأعظم لله سبحانه وبحمده.
وهذان الاسمان (الحي القيوم) عليهما مدار الكمالات في أسماء الله ـ تعالى ـ وصفاته، وعليهما مدار الأسماء كلها، ولذلك قيل: إنهما الاسم الأعظم لله ـ تعالى ـ وقد بيَّن ابن القيم ـ رحمه الله ـ في نظم بديع له معاني القيوم ومعنى الحي، فقال:
هذا ومن أوصافه القيوم |
|
والقيوم في أوصافه أمران |
أي: من معاني القيوم في أوصافه أنه يشتمل معنيين.
إحداهما القيوم قام بنفسه
هذا المعنى الأول.
والكون قام به هما أمران
فالكون كله قائم بالله جل وعلا.
فالأول استغناؤه عن غيره |
|
والفقر من كل إليه الثاني |
والوصف بالقيوم ذو شأن عظيم هكذا |
|
موصوفه أيضاً عظيم الشان |
والحي يتلوه فأوصاف الكما |
|
ل هما لأفق سمائها قطبان |
فالحي والقيوم لن تتخلف الـ |
|
أوصاف أصلاً عنهما ببيان |
ومما تميز به هذا الاسم العظيم الشريف (الحي القيوم) أن له أثر عظيم في كشف الكربات وإزالة البليات، والتصبير على النوازل والنائبات، الله ـ تعالى ـ يقول لرسوله: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾[الفرقان:58]، فالتوكل على الله ـ عز وجل ـ من أسباب ثقة الإنسان بحصول مقصوده أن يعرف صفة المتوكَّل عليه، فالله ـ تعالى ـ يقول: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾.
وفي الحديث الصحيح في سنن الترمذي من حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا كربه أمر قال: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث»سنن الترمذي (3524)، يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: وفي تأثير قوله: «يا حي يا قيوم» في دفع البلاء مناسبة، يعني: هناك مناسبة بين هذا الاسم وبين النتيجة وهي دفع البلاء وإزالة الكربة والشدة والنازلة، ما هي المناسبة؟ يقول ـ رحمه الله ـ: فإن صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال، مستلزمة لها، وصفة (القيوم) متضمنة لجميع صفات الأفعال. يعني: هما اسمان متضمنان لكل صفات كمال الله ـ عز وجل ـ فمن قالهما فكأنما دعا الله بكل أسمائه وذكر الله ـ تعالى ـ بكل أسمائه؛ لأن كل كمال يرجع إلى واحد من هذين الاسمين: إما إلى الحي وإما إلى القيوم، ولذلك قال: ولهذا كان اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب هو الحي القيوم، والحياة التامة تضاد جميع الأسقام والآلام، ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة لم يلحقهم هم ولا غم ولا حزن ولا شيء من هذا، ونقصان الحياة يضر بالأفعال وينافي القيومية، فكمال القيومية لكمال الحياة.
هكذا يقول ـ رحمه الله ـ في كلام له بديع في بيان ما الرابط بين كون هذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يذكره في الاستغاثة عند الكرب وبين هذين الاسمين، ما الرابط بين الاستغاثة بالله ـ عز وجل ـ والتوسل إليه بهذين الاسمين في مقام كشف الكربة وكشف النائبة، فأبان أن هذين الاسمين يتضمنان الكمال المطلق لله ـ عز وجل ـ ولذلك كان التوسل بصفة الحياة والقيومية له تأثير في إزالة ما يضاد الحياة من الأسقام والأمراض والبلايا والهموم والغموم وما يضر بالأفعال من النوازل والمصائب، فاستغاث بذلك لكشف البلاء ورفعه.
إن مما يتعلق بهذا الاسم ومما يتميز به هذان الاسمان الكريمان لله ـ عز وجل ـ: أنهما اسمان بهما ذكر الله ـ جل وعلا ـ كماله في اجتهاد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دعائه، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا اجتهد في الدعاء والطلب قال: يا حي يا قيوم. وهنا نقف عند مسألة: فادعوه بها.
تقدم أكثر من مرة أن دعاء العبد بأسماء الله ـ تعالى ـ وصفاته يتضمن أمرين:
الأمر الأول: أن يسأل الله ـ تعالى ـ بأسمائه الحسنى.
والأمر الثاني: أن يمجد الله وأن يقدسه بتلك الأسماء، وأن يؤمن بآثارها ويستحضر آثارها في حياته ويتذوق طعم ذلك الأثر في قلبه، أما ما يتعلق بالسؤال فهو ما ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه الترمذي من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا أهمه الأمر رفع رأسه إلى السماء فقال: سبحان الله العظيم، وإذا اجتهد في الدعاء قال: يا حي يا قيوم»سنن الترمذي (3436).
وفي حديث أنس: «كان إذا كربه أمر قال: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث»سنن الترمذي (3524)، فترجم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾[الأعراف:180] بهذه الدعوات الصادقات متوسلاً إلى الله ـ تعالى ـ بأنه الحي القيوم جل في علاه.
وهذان الاسمان الكريمان يتعبد الإنسان بهما لله ـ عز وجل ـ في مقام تفويض الأمر إليه، يعني: أنت الآن عندما تريد حاجة أو تطلب قضية فأبلغ ما تصل به إلى ما تريد هو أن تكِل قلبك إلى الله ـ عز وجل ـ وتركن إليه ـ جل في علاه ـ فإن أعظم وسيلة يصل بها الإنسان إلى مطلوبه هو أن يصدق مع الله ـ جل وعلا ـ في الاعتماد عليه والتوكل عليه، وقد قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾[الفرقان:58]، فإن التوكل على الله سبب لإدراك المطالب، إذ التوكل هو صدق الاعتماد على الله ـ تعالى ـ في جلب المنافع ودفع المضار.
لذلك يا إخواني ويا أخواتي! نحن بحاجة إلى أن نستشعر أنه عندما تقول: يا حي يا قيوم أنك معتمد على رب يقضي الحاجات، يعني: إذا كان من أفعاله ـ جل وعلا ـ أنه قائم بالسماوات والأرض، فما الذي تنتظره في عدم توكلك عليه؟ من يقوم بالسماوات والأرض أليس قادراً على أن يقضي حاجتك؟ من هو قائم على كل نفس بما كسبت أليس من قدرته ـ جل في علاه ـ وقوته أن يبلغك مرادك ومطلوبك؟ بلى والله، لكن الناس يغفلون ويظنون أن التفاتهم إلى غير الله ـ عز وجل ـ يجلب لهم منفعة أو يدفع عنهم مضرة. وهذا من الغلط الكبير الذي يوقع الناس في إرهاق وإضاعة وقت دون إدراك مطلوبهم ولا الأمن من ما يرهبون، بل هم في فوات لمصالح دنياهم وفي تدمير لآخرتهم.
لذلك ينبغي للمؤمن أن يحرر هذا المقام، وأن يتحرى في إيمانه عندما يسمع هذه الأسماء أن يحرر هذا الأمر وهو أن الحي القيوم هو الذي يركن إليه القلب في جلب كل منفعة ودفع كل مضرة في تحصيل المصالح ودفع المضار، فإنه ـ جل في علاه ـ قائم على كل نفس، فثق بالله وتوكل عليه، فله القدرة التامة الكاملة، وله القوة الكاملة ـ جل في علاه ـ الذي يصدق عبده إذا صدق في التوكل عليه: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾[الطلاق:3].
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، وارزقنا صدق الاعتماد عليك، واسلك بنا سبيل الراشدين، واصرفنا عن كل ردن يا ذا الجلال والإكرام.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم: فادعوه بها، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.