الحمد لله رب العالمين، أحمده جل في علاه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، رب العالمين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم: فادعوه بها.
وقد عرفنا أن هذه الآية المقصود بها هو أسماء الله ـ تعالى ـ فإن الله ـ جل وعلا ـ قال: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[الأعراف:180]، وقد تطرقنا في حلقة مضت إلى اسم الحي، وفي هذه الحلقة ـ إن شاء الله تعالى ـ نتناول الاسم القرين لاسم الحي، إنه (القيوم)، وقد ذكره الله ـ تعالى ـ في ثلاثة مواضع من كتابه مقترناً بالحي، فقال ـ جل وعلا ـ في آية الكرسي التي هي أعظم آية من آيات الله ـ عز وجل ـ في كتابه الحكيم: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ﴾[البقرة:255]، ثم أثبت ملكه وعظيم سلطانه ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾[البقرة:255].
وذكره الله ـ تعالى ـ أيضاً في افتتاح سورة آل عمران يقول الله ـ تعالى ـ: ﴿الم* اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾[آل عمران:1-2].
وقد ذكره الله ـ عز وجل ـ في ثنايا سورة طه، يقول ربنا ـ جل في علاه ـ: ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴾[طه:111]، أي: ذلت وخضعت وأنابت للحي القيوم ـ جل في علاه ـ ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ﴾، والوجوه أشرف ما في خلق الخلق، فإذا عنت له الوجوه دل ذلك على ذلها له سبحانه وبحمده.
إن الله ـ عز وجل ـ ذكر هذا الاسم العظيم في هذه المواضع الكريمة من كتابه الحكيم، وهو من الأسماء التي تدل على معان كثيرة في أسماء الله ـ عز وجل ـ فالقيوم إليه يرجع كل صفات فعل الله ـ سبحانه وبحمده ـ وكل صفات الفعل والأسماء التي تتعلق بالأفعال ترجع إلى أنه القيوم ـ سبحانه وبحمده ـ فما معنى القيوم؟ معنى القيوم أي: القائم على خلقه، كما قال ـ جل وعلا ـ: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾[الرعد:33]، وهو الله ـ جل وعلا ـ القائم على كل نفس بكسبها، فهو المحيط بعملها، العالم بسرها وإعلانها، العالم بدقيق أمرها وجليله، فالله ـ تعالى ـ قائم على كل نفس، كما أنه ـ سبحانه وبحمده ـ قيم في السماوات والأرض، فهو سيد السماوات والأرض، وهو المقيم للسماوات والأرض، جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال في ذكره لربه وثنائه عليه: «أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن»صحيح البخاري (1120)، فكل الخلق إلى الله ـ تعالى ـ فقراء، وكل الخلق إليه ـ جل وعلا ـ مضطرون ـ سبحانه وبحمده ـ فهو السيد الذي يسوس الأمور ويدبرها، هو القيم على كل شأن وكل شيء، لا قوام له إلا به ـ سبحانه وبحمده ـ ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ﴾[الرعد:33]، «أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن»، كما في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
فمعنى اسم الله القيوم: أنه قائم بنفسه فلا حاجة به إلى أحد، ولا حاجة بالله ـ عز وجل ـ لخلقه، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾[فاطر:15]، لا إلى ذواتهم ولا إلى صفاتهم ولا إلى أعمالهم، «يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري تضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني»صحيح مسلم (2577)، بل هو القائم على خلقه، والذي يأتي خلقه بكل إحسان وفضل، فلولا قيامه عليهم جل في علاه سبحانه وبحمده لما تيسرت لهم الأسباب، ولما أدركوا ما يؤملونه من المأمولات، ولا أمنوا أيضاً مما يخافونه من المرهوبات.
الله قيام السماوات والأرض، وقيوم السماوات والأرض، وقيم السماوات والأرض ومن فيهن، وكل هذه الأسماء وهذه الأخبار تخبر عن عظيم شأن الله ـ عز وجل ـ هذه السماوات انظروها، انظر إلى السماء وما فيها من كواكب، ما فيها من نجوم، ما فيها من بديع صنع الله ـ عز وجل ـ من الذي يقيمها؟ من الذي يمسكها أن تقع على الأرض؟ إنه الله قيوم السماوات والأرض، ولذلك يقول الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا﴾[فاطر:41]، يعني: ما أمسكهما، (إن) هنا بمعنى: ما، ﴿إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ﴾[فاطر:41]، يعني: ما يمسكهما أحد من بعده، لو تركها الله ـ تعالى سبحانه وبحمده ـ ولم يقم عليها ـ جل في علاه ـ ويمسكها فمن ذا الذي يمسك هذه السماوات؟ من ذا الذي يقوم بها جل في علاه؟ إنه لا أحد يمسكها، ولذلك قال: ﴿إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾[فاطر:41]، جل في علاه سبحانه وبحمده.
فعلى عظيم ما يكون من قصور عباده وتقصيرهم في حقه وأذيتهم له سبحانه بمخالفة أمره وقول السوء فيه ـ جل في علاه ـ إلا أن ربنا حليم غفور، فلا يعجل بالعقوبة ـ سبحانه وبحمده ـ ويستر العيب ويتجاوز عن الزلل والخطأ، وما ينزل من بلاء ومصاب فإنما هو شيء من عمل الناس، ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[الروم:41]، فهو ـ جل في علاه ـ يمسك السماوات والأرض أن تزولا، يقيم الكون كله على الوجه الذي يرضاه سبحانه وبحمده، فهو القيوم.
وكذلك القيوم من أوصافه |
|
ما للممات عليه من غشيان |
إن القيوم يدل على كمال غناه، فهو الغني ـ سبحانه وبحمده ـ كما أنه يدل على كمال القدرة، فإنه لولا عظيم قدرته وبالغ قوته ـ جل في علاه ـ ما قام بالسماوات والأرض، لكنه ـ جل وعلا ـ قائم بالسماوات والأرض، وليس الشأن فقط بالسماوات والأرض، بل حتى في أدق ما يكون ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾[هود:6]، وهذا من قيامه على كل ما يدب في الأرض وما يطير في السماء فإنه بالله قائم، ولذلك من أوسع ما يكون في دلالة هذا الاسم ما ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سياق تمجيده لربه ـ جل في علاه ـ وذكره له: «أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن».
وما الذي في السماوات والأرض؟ فيهن الملائكة، فقيامهم بالله، فيهن الإنس وقيامهم بالله، فيهن الجن وقيامهم بالله، فيهن الحيوانات بشتى صنوفها وقيامهم بالله، فيهن الشمس والقمر والكواكب والنجوم والأفلاك كل هذه الدنيا على اتساعها وتفنن شعابها وتلون خلقها كلها بالله قائمة، هذا ما في شك أنه يملأ القلب تعظيماً للرب الذي من تمام قدرته وكمال غناه ـ جل في علاه ـ أن يقوم كل هؤلاء به سبحانه وبحمده.
وقد دعا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربه بهذا الاسم، فكان يمجد الله ـ تعالى ـ بذكر هذا الاسم كما هو في الصحيح من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ يقول: «أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن»، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما جاء في صفة قيامه في الليل ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان يفتتح صلاة الليل بقوله: «اللهم أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن»، وجاء أنه كان يقول: «أنت قيام السماوات والأرض ومن فيهن، فلك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقائك الحق، والجنة حق والنار حق، ومحمد حق، والساعة حق»، هذا تمجيد وتقديس لله ـ عز وجل ـ ودعاءه بهذا الاسم من جملة ما عظم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربه به.
القيوم من الأسماء العظيمة الجليلة التي كلما تدبرها الإنسان وتمعن في مدلولاتها علم أن ربه له الأسماء الحسنى وله الصفات العلى، وأنه لا غنى به عن ربه، ولهذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه»صحيح مسلم (179)، وهذا من قيامه ـ جل وعلا ـ يُرفع إليه عمل الليل بالنهار وعمل النهار بالليل، كل هذا لقيامه بخلقه جل في علاه سبحانه وبحمده.
أسال الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الفقه في الدين والعمل بالتنزيل، وأن يرزقنا لذة عبادته، وأن يذيقنا طعم الإيمان به، وأن يجعلنا وإياكم من حزبه وأوليائه، وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة إن شاء الله تعالى من هذا البرنامج برنامجكم: فادعوه بها، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.