الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحكم وإليه ترجعون، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناءً عليه كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجي من النار، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد بالعلم والبيان، والسيف والسنان، حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، حياكم الله في برنامجكم: فادعوه بها.
يقول الله ـ جل في علاه ـ: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾[البقرة:255]، ويقول ـ سبحانه وبحمده ـ: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾[آل عمران:2]، ويقول ـ تبارك وتعالى ـ: ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾[طه:111]، ويقول عز من قائل عليماً: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾[الفرقان:58].
هذه الآيات الكريمات تضمنت ذِكْر اسم الحي، وهو من أسماء الله ـ تعالى ـ التي عظَّم الله بها نفسه، وأبان بها كماله، وأظهر فيها ما يجب له سبحانه وبحمده.
الحيقرين القيوم في أغلب موارد ذِكْر هذا الاسم، لكنه جاء منفرداً في قوله ـ جل وعلا ـ: ﴿هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾[غافر:65]، وفي قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾[الفرقان:58].
والحيفي اللغة ضد الميت، والحياة ضد الموت، وهما متقابلان، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ﴾[الملك:2]، فمن كماله ـ جل في علاه ـ قدرته على خلق الأرض الأضداد المتقابلات، فهو يخلق الحسن والقبيح، يخلق الحي والميت، يخلق القوي والضعيف، يخلق الليل والنهار، كل ذلك على عظيم قدرته ونافذ حكمته سبحانه وبحمده.
إن (الحي) اسم من الأسماء الشريفة المندرجة في قول الله ـ تعالى ـ: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾[الأعراف:180]، وقد جاء ذكره في السنة كما هو في القرآن، في غالب مواطن الذِّكْر يقترن الحي بالقيوم، لكن جاء منفرداً فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقول: «اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي»، هكذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أنت الحي الذي لا يموت، والإنس والجن يموتون»صحيح مسلم (2717).
إذاً: هذه الآية أو هذا الحديث مع الآية التي سبق ذكرها في قوله: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾[الفرقان:58] تبين معنى الحي، وأن معنى الحي هو الذي لا يموت ـ سبحانه وبحمده ـ فحياته لا نقص فيها بوجه من الوجوه، بل له الكمال المطلق في حياته ـ سبحانه وبحمده ـ وحياته لا يسبقها عدم ولا يلحقها فناء، فهو الأول والآخر، الأول الذي ليس قبله شيء ـ سبحانه وبحمده ـ والآخِر الذي ليس بعده شيء، فالله ـ تعالى ـ متصف بالحياة التي لم يسبقها عدم والتي لا يلحقها فناء، فله الحياة الدائمة والبقاء الذي لا أول له، وإذا كان كذلك فكل حياة هو مصدرها ـ جل وعلا ـ ولهذا قال بعض أهل العلم: الحي يدل دلالتين: الدلالة الأولى: على أنه كامل في صفاته ـ جل في علاه ـ ومثبت لحياته التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه.
والدلالة الثانية لهذا الاسم: الإحياء، وهو فِعْله ـ سبحانه وبحمده ـ فهو الذي يهب الحياة لمن يشاء، ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الملك:2]، ولهذا أمرنا الله ـ تعالى ـ بالتوكل عليه لكمال حياته، وأنه هو الذي يهب كل الهبات والعطايا، فمنه ـ جل في علاه ـ ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾[الفرقان:58]، إنه حي لا يموت، ولا يتطرق إليه نقص بوجه من الوجوه، والخلق إنسهم وجنهم يموتون، ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾[القصص:88] سبحانه وبحمده، كل شيء فانٍ إلا هو سبحانه ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾[الرحمن:26-27]، فهو الملك ـ سبحانه وبحمده ـ الذي لا يعتري حياته نقص بوجه من الوجوه.
ولقد بيَّن الله ـ تعالى ـ كمال حياته، فقال ـ سبحانه وتعالى ـ: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ﴾[البقرة:255]، فنفى عنه السِّنَة ونفى عنه النوم، السِّنَة هي النعاس، ونفى عنه النوم الذي هو ضد اليقظة وضد الحياة، فالنوم نوع من الموت، نوع من النقص، ولذلك سماه الله ـ تعالى ـ موتاً: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾[الزمر:42] يعني: لم تمت الموت الذي هو المفارقة الكلية للبدن، فقسم الله ـ تعالى ـ الناس بعد نومهم إلى قسمين: قسم ترجع إليه روحه وسماه موتاً، وقسم لا ترجع إليه روحه، وهذا الموت الذي يكون فيه الإنسان انتقل من الحياة الدنيا إلى الحياة البرزخية، فالموت نوع من النقص، ولذلك نفاه الله ـ تعالى ـ عن نفسه، فلا تأخذه سنة ولا نوم لكمال حياته.
وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام»، هو مالك المُلك جل في علاه سبحانه وبحمده، الخلق كلهم مفتقرون إليه، فهو الغني عن أن ينام أو أن تلحقه سِنَة أو نوم جل في علاه سبحانه وبحمده، ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، يُرفع إليه عمل النهار بالليل، وعمل الليل بالنهار»صحيح مسلم (179)، وهذا يدل على تعلُّق عباده به جل في علاه.
فالحياة الثابتة لله رب العالمين حياة كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوب، حياة غيره مسبوقة بعدم ويلحقها فناء، ثم إنه يلحقها من النقص في ذلك من النوم ونحوه ما هو معروف في حياة الناس، أما ربنا ـ جل في علاه ـ فله الحياة كمالها، ليس فيها نقص.
فلأجل ذا ما للممات |
|
عليه من سلطان |
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعا الله باسمه الحي فيما ذكره ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في دعائه: «اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت»، ثم قال بعد أن أثنى على الله بما هو أهله: «أنت الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون»، فهذا توسل إلى الله ـ تعالى ـ بصفته، هذا استعمال لهذا الاسم في مقام السؤال والطلب، وأما في مقام الثناء فذاك في أشياء كثيرة ومنها: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، هذا ثناء وطلب أيضاً مقترن بالسؤال، لكن في مثل قوله: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾[البقرة:255] هذا ثناء وتمجيد وتقديس وليس فيه طلب وسؤال.
المقصود أنه ينبغي أن نستشعر مثل هذه المعاني التي في أسماء الله ـ عز وجل ـ لأن هذه المعاني تحيي القلوب وتعرِّف بالله ـ عز وجل ـ وتجعل هذه الأسماء خارجة عن الجمود الذي يتصوره بعض الناس من أنها أسماء لا معنى لها، بل هي أسماء تتضمن معانٍ شريفة جليلة ينبغي الوقوف عليها والحرص على معرفة بعضها، وإلا فمعاني أسماء الله ـ تعالى ـ لا يحيط الناس بحقائقها ولا يدركون معانيها على وجه الكمال، إنما يعرفون منها ما تعقله قلوبهم وتفهمه أذهانهم، والله ـ جل في علاه ـ أجلّ وأعظم مما يدور في الخيال أو يتوهمه العقل ويدور في الأوهام.
هذا ما أحببنا الحديث عنه في هذه الحلقة من حلقات برنامجكم: فادعوه بها، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من هذا البرنامج، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.