الحمد لله رب العالمين، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناءً عليه كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم: فادعوه بها.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ﴾ إننا نتحدث عن اسمين كريمين من أسماء الله ـ عز وجل ـ هما: الرحمن الرحيم. وقد أمر الله ـ تعالى ـ عباده بأن ينظروا إلى آثار رحمته ليعلموا كبير إحسانه وعظيم اتصافه بالرحمة، فهو الرحمن الرحيم، وهذه الصفة جعل الله ـ تعالى ـ لها اسمين من أسمائه الشريفة الكريمة الحسنى؛ ذلك لواسع وعظيم ما اتصف به من هذا الوصف الكريم والصفة المثلى وهي أنه ذو رحمة واسعة ـ جل في علاه ـ فرحمة الله وسعت كل شيء سبحانه وبحمده.
ومن أوجه مشاهدة آثار هذه الرحمة: أن يتلمس ذلك المؤمن في كل شأنه وفي أفعال ربه ـ جل وعلا ـ وليعلم أنه لا غنى بأحد عن رحمة الله، ولولا رحمة الله ما طابت لنا دنيا ولا طابت لنا آخرة، فالإنسان مضطر إلى رحمة الله ضرورة لا غنى عنه بها حتى في شأن الآخرة، لذلك جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة ومن حديث عائشة ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة منه ورحمة»صحيح البخاري (6467)، وصحيح مسلم (2816)، وفي رواية: «إلا أن يتغمدني الله برحمته».
إذاً: نحن نحتاج إلى رحمة الله ـ تعالى ـ حتى في دخول الجنة، فأعمالنا ولو كانت صالحة فإنها لا تكفي في استحقاق هذا الفضل العظيم، في دخول رحمة الله التي وسعت كل شيء، إنما لابد من رحمة خاصة تبلغك دخول الجنة التي عرضها السماوات والأرض.
إذا أتى الله يوم الحشر في ظلل وجيء بالأمم الماضين والرسل
وحاسب الخلق من أحصى بقدرته أنفاسهم وتوفاهم إلى الأجل
ولم أجد في كتابي غير سيئة تسوؤني وعسى الإسلام يسلم لي
رجوت رحمة ربي وهي واسعة ورحمة الله لي أرجى من العمل
إي والله رحمة الله أرجى لنا من أعمالنا، لا يعني هذا أن نترك العمل ونقول: نرجو رحمة الله، بل الذين يرجون رحمة الله هم الذين يسعون في طاعته ويمتثلون أمره، لذلك يخطئ من يظن أن رجاء الرحمة يكون بالتقصير والزلل والخطأ والخطل، لا والله، لا يرجو رحمة الله إلا من صدق مع الله ـ تعالى ـ فبذل جهده وسعيه في إدراك رحمة الله جل وعلا.
إن رحمة الله ـ عز وجل ـ يظهر فضلها ويتبين أثرها في ما شرعه من الشرائع والأحكام، فإن رحمة الله ـ تعالى ـ في هذه الشريعة واضحة وظاهرة، فهي رحمة بنا، وهي رحمة فيما بيننا، وهي رحمة للموافق وهي رحمة للمخالف، فلا يغيب وصف الرحمة وأثرها في شأن من شئون هذه الشريعة المباركة، ولذلك إياك أن تظن وإياكِ أن تظني أن رحمة الله مقصورة فقط على أوجه البر والعطاء، بل حتى في العقوبة رحمة، وفي المحن رحمة، وفي التكاليف رحمة، فما من شيء في قضاء الله ـ تعالى ـ وشرعه وفي حكمه وقدره إلا وفيه رحمة، لكن لا يتبين ذلك إلا لمن فتح عين قلبه وأبصر فؤاده، فكان ذا بصيرة يدرِك ببصيرته مواقع الفضل وأوجه الرحمة في خلق الله ـ تعالى ـ وقدره، ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[الأعراف:54].
من ذلك: أن الله ـ تعالى ـ بيَّن لعباده عظيم رحمته حتى يتعرضوا لها، وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حريص على تقريب هذا المعنى لأذهان الصحابة بالمثال، والأمثلة تكشف الغائب وتوضح المستور، فكم من قضية ذهنية عقلية معنوية لا يدرِكها الناس إلا بالمثال.
من ذلك: مثَّل لهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثالاً شاهداً يبين عظيم رحمة الله ـ عز وجل ـ ففي ما رواه البخاري ومسلم من حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ: «أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قدم عليه سبي» وهم من يؤسر من الأعداء المقاتلين، فجيء في السبي بامرأة فرآها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد فزعت وتركض بين السبي تبحث عن شيء، فلما وجدت صبياً رفعته إلى صدرها فأرضعته. وهذا المشهد أمام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمام أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ امرأة فزعة تلهث وتركض، وجدت صبياً فرفعته إليها وألصقته إلى بطنها فأرضعته أمام الناس في هذا المشهد الذي يمتلئ عطفاً ورحمة ورقة وحلوّاً، ماذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه؟ قال لهم: «أتُرَون» يعني: أتظنون. «أتُرَون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تفعل؟ قالوا: لا يا رسول الله»، لا يمكن أن يكون هذا، ما تفعل هذا المرأة بهذا الطفل، يعني: تطرح هذا الولد في النار فلذلك قالوا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهنا الشاهد: «الله أرحم بعباده من هذه بولدها»صحيح البخاري (5999).
الله أكبر ما أعظم سعة رحمة الله تعالى! ربكم ذو رحمة واسعة فتعرضوا لرحمته، ربكم ذو عطاء كبير، فهو أرحم بنا ـ سبحانه وبحمده ـ من أمهاتنا، أرحم بنا ـ جل في علاه ـ من أنفسنا، ولذلك نهانا عن أن نسيء إليها، قال ـ تعالى ـ: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾[النساء:29]، فمن رحمته بنا أن نهانا عن أن نجني على أنفسنا، وهذا من سعة رحمته التي وسعت كل شيء، ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾[غافر:7]، ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ﴾[الأنعام:147]، قال ـ جل وعلا ـ: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾[الأعراف:156] لكنه جل في علاه بيَّن الأسباب التي تُدرَك بها رحمته.
هذه الرحمة الواسعة تصيب كل أحد، فالرحمة منها ما هو عام لا يخلو عنها شيء من خلق الله ـ تعالى ـ لكن هناك رحمة خاصة، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾[الأحزاب:43]، فهناك رحمة خاصة بعباد الله ـ عز وجل ـ نصيبهم أعلى من نصيب غيرهم فكيف ندرك ذلك؟ قال ـ جل وعلا ـ: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾[الأعراف:156].
نقف قليلاً لنسأل أنفسنا: هل نحن من أهل هذه الرحمة؟ هل أخذنا بالأسباب التي من خلالها نفوز برحمة الله ـ عز وجل ـ ليكون نصيبنا من هذه الرحمة كبيراً؟ إن من دعاء الله ـ تعالى ـ بأسمائه وباسمه الرحمن الرحيم أن تبحث في نفسك: هل أنت ممن حقق الأسباب الموجبة لرحمة الله عز وجل؟ الله ـ تعالى ـ يقول: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾[الأعراف:180]، وهذا خبر من الله ـ تعالى ـ وأمر، أخبر بأن له الأسماء وأمرنا بأن ندعوه بأسمائه، فالرحمن الرحيم هذان اسمان من أسماء الله ـ عز وجل ـ فكيف ندعوه بها؟ كيف ندعوه بالرحمن وكيف ندعوه بالرحيم؟ ندعوه بذلك طلباً وسؤالاً وعبادة وثناءً. أما الطلب والسؤال فعندما تقول: يا رحمن ارحمني، يا رحيم مُنَّ عليّ، فأنت الآن تسأل الله تعالى بهذين الاسمين، تدعوه بها سؤالاً وطلباً، ومن دعائه بها: أن تدعوه بها تعبُّداً وثناءً وتمجيداً وعملاً وذلك بأن تنظر في آثار رحمة الله، وأن تسعى في إدراك رحمة الله ـ تعالى ـ بالعمل، فإن رحمة الله ـ تعالى ـ تُدرَك بالعمل كما أن رحمة الله ـ تعالى ـ تُدرَك وتُشاهَد آثارها بالبصر، لذلك من المهم أن نبحث عن الأسباب التي يفوز الإنسان فيها برحمة الله.
فالله ـ تعالى ـ لم يقل: إن هذه الرحمة الخاصة تصيب كل شيء، إنما بعد أن أخبر بسعة رحمته بيَّن أنها تنال بأسباب، كما قال ـ جل وعلا ـ: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾[الأعراف:156]، فما من شيء إلا وفيه رحمة الله ـ تعالى ـ ظاهرة وبادية لمن تبصر ورآها، لكن الناس في هذه الرحمة متفاوتون، نصيبك من رحمة الله ليس كنصيب غيرك، والفارق هو في أخذك بالأسباب التي تبلغ بها رحمة الله ـ تعالى ـ واشتغالك بالأسباب في النيل من رحمة الله ـ عز وجل ـ هو من دعاء الله ـ تعالى ـ باسمه: الرحمن الرحيم، ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾[الأعراف:156] اللهم اجعلنا منهم. ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ وهو كل ما أمر الله ـ تعالى ـ به من الأموال الواجبة في الإنفاق وعلى وجه الخصوص حق الله في المال، بعد ذلك قال: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ أي: يقرون ويصدقون، وذكر ذلك من باب عطف العام على الخاص، فإنه لا يتقي ولا يؤتي الزكاة إلا من هو بالله مؤمن.
هذه بعض الأسباب. ولعلنا نقف على أبرز الأسباب التي تُنال بها الرحمة في لقاء قادم إن شاء الله تعالى.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم: فادعوه بها، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.