الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده جل في علاه، لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها النجاة من النار، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، وأسأل الله ـ تعالى ـ أن يكون هذا المجلس مجلساً نافعاً مباركاً.
في هذه الحلقة من برنامجكم: فادعوه بها، نواصل الحديث عن اسمين كريمين من أسماء الله ـ عز وجل ـ إنهما: الرحمن الرحيم، وهما اسمان كريمان دالان على عظيم رحمة الله ـ تعالى ـ بعباده، فالله قد وسعت رحمته كل شيء سبحانه وبحمده، كما قال ـ جل في علاه ـ: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾[الأعراف:156]، ﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾[الأعراف:89]، فرحمته قد شملت عباده ووسعت خلقه وبلغت حيث بلغ علمه الذي لا يقصر عن شيء، ﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾، فعلمه وسع كل شيء ـ سبحانه وبحمده ـ كذا رحمته وسعت كل شيء جل في علاه.
إننا في هذه الحلقة سننظر إلى شيء من آثار رحمة الله، فالله ـ تعالى ـ قد أمر الناس بأن ينظروا إلى آثار رحمته، فالرحمة هي صفته ـ جل وعلا ـ وهي فعله ـ سبحانه وبحمده ـ الذي يُشهَد له من الآثار ويُنظر له من الثمار في كل شيء وفي كل شأن من شئون الناس.
يقول الله ـ جل وعلا ـ في محكم كتابه: ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[الروم:50]، رحمة الله وسعت كل شيء، وامتثال أمره أن تتلمس هذه الرحمة في شأنه ـ جل في علاه ـ في صفاته، في أسمائه، في أفعاله جل وعلا.
يكفيك من وسع الخلائق رحمة وكفاية ذو الفضل والإحسان
يكفيك رب لم تزل ألطافه تأتي إليك برحمة وحنان
فكل خير في الدنيا إنما هو أثر من آثار رحمة الله ـ عز وجل ـ ورحمته ـ جل في علاه ـ قد أخبر أنه -سبحانه وبحمده- أظهر آثارها في عباده وفي فعله ـ جل في علاه ـ وقد جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك تسعة وتسعين رحمة وأنزل رحمة واحدة، وهي التي يتراحم بها الخلق»صحيح البخاري (6469)، فرحمة الله عظيمة واسعة، يعني: هذه الرحمة التي نشهد آثارها أو نشهد بعض آثارها في حياتنا وفي دنيانا إنما هي رحمة واحدة من مائة رحمة خلقها الله ـ تعالى ـ وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييئس من الجنة»صحيح البخاري (6469)، على عظيم عناده واستكباره وجحوده وخروجه عما أمر الله ـ تعالى ـ به، لكنه لو علم ما في رحمة الله ـ تعالى ـ من السعة والشمول وما عنده ـ جل وعلا ـ من الرحمة ما أيس من دخول الجنة رغم وجود المانع وهو الكفر.
وكذلك في المقابل لو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار، فنسأل الله رحمته ونعوذ به من ناره.
لكن هذه الرحمة لها آثار، وقد نبَّه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى آثار تلك الرحمة ليبصر الإنسان ويتلمس آثار الرحمة فيما حوله، فالرحمة التي رحم الله ـ تعالى ـ بها العباد وجعلها بينهم وأنزلها إليهم هي جزء واحد من أجزاء كثيرة عند الله ـ جل وعلا ـ وهذا الجزء الذي أنزله من الرحمة هو الذي يتراحم به الخلق، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق، حتى ترفع الفرس حافرها من ولدها خشية أن تصيبه»صحيح البخاري (6000)، وهذا يبين لنا عظيم هذه الرحمة، يعني: إذا رأيت هذا الحيوان الذي لا يعقل يرفع قدمه عن ابنه، يسعى في مصالحه، يبلغه الطعام، يحفظه من الآفات والأذى؛ كل ذلك إنما هو برحمة الله ـ جل وعلا ـ فهذه صورة وأثر من آثار رحمة الله التي أنزلها والتي يتراحم بها الخلق.
من آثار رحمة الله ـ عز وجل ـ: أن خلقنا من عدم، وأنشأنا من لا شيء، ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾[الإنسان:1]، فأنعم الله ـ تعالى ـ علينا بالخلق، ولقد ذكر الله ـ تعالى ـ هذا في آثار رحمته وذكره بعد اسمه فقال: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ﴾[الرحمن:1-3]، فجعل خلق الإنسان من آثار رحمته جل وعلا.
ومن آثار رحمته: ما يشهده الناس من الخير النازل إليهم في البلاد وفي العباد وفي الأرض وفي الحضر وفي البدو، والله ـ تعالى ـ يقول: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾[الشورى:28].
وفي الآية التي أمر فيها بالنظر إلى آثار رحمته يقول: ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾[الروم:50]، وجعل ذلك وسيلة إلى الادكار بما سيكون بعد الموت من البعث والنشور: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[الروم:50].
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك
على كثب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
سبحانه وبحمده، وجل في علاه، وجل في قدرته، هكذا هي القلوب الحية تتلمس آثار رحمة الله، تنظر في بديع صنعه فتستدل به على كمال الصانع القادر الخالق جل في علاه.
من رحمته: أن أرسل الرسل، وهذا من أجلّ صور رحمة الله ـ عز وجل ـ وأجلاها ظهوراً أن أرسل الرسل إلى الناس، فلم يخلق الخلق ويتركهم هملاً سدىً لا يعرفون ربهم ولا يدركون لماذا خلقوا وماذا يراد منهم، بل أرشدهم ـ جل في علاه ـ وبيَّن لهم كيف يعرفونه ـ سبحانه وبحمده ـ وكيف يصلون إلى رضوانه ـ جل في علاه ـ فأرسل الرسل، وكانت تلك الرسالات رحمة من الله ـ جل وعلا ـ يقول ـ جل وعلا ـ فيما قصه عن رسله: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً﴾[هود:63]، وقال نوح ـ عليه السلام ـ: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ﴾[هود:28].
ويقول ـ جل وعلا ـ في رسوله الكريم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء:107]، وفي حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لما قيل له: «ألا تدعو على المشركين؟ قال: إني لم أبعث لعاناً، إنما بعثت رحمة»صحيح مسلم (2599)، فكانت بعثته وإرساله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رحمة، ولذلك جاء في الطبراني والبزار والحاكم من حديث أبي هريرة أنه قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إنما أنا رحمة مهداة»سنن الدارمي (15)، فهو رحمة كما قال الله ـ جل وعلا ـ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء:107].
من رحمته: أن أنزل الكتب التي يعرف الناس بها ربهم، ويعرفون كيف يَصِلُون إليه ـ جل وعلا ـ ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس:58]، هذا في ذكره للموعظة التي جاء بها: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾[يونس:57] وهو القرآن العظيم، ﴿وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[يونس:57] ثم قال: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس:58].
إن إنزال القرآن من أعظم آثار الرحمة، ولذلك لما ذكر الله ـ تعالى ـ أنواع نِعَمه على عباده في سورة الرحمة ذكر في أول ما ذكر: تعليم القرآن، قال: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾[الرحمن:1-2]، وهذا يدل على أن إنزال الكتب هو من أعظم آثار رحمة الله ـ تعالى ـ التي يشهَد به عطاؤه وإحسانه جل في علاه.
من رحمته: أنه يعين الطائعين على الطاعة ويتوب على المسيئين ـ جل في علاه ـ فهذا من آثار الرحمة أن أعان عباده على طاعته، فقد أعان الله ـ تعالى ـ كل من أراد الهدى، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾[العنكبوت:69]، ولذلك جاء في صحيح مسلم من حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال فيما يرويه عن ربه: «يقول الله ـ تعالى ـ: من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة»صحيح البخاري (7536)، كل هذا لإعانة الناس على الإقبال على الله ـ تعالى ـ والأخذ بما أمر جل في علاه.
وفي جانب الإساءة قال: «ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة»صحيح مسلم (2687)، وهذا عطاء من الله ـ عز وجل ـ فمن رحمته ـ سبحانه وبحمده ـ أنه يعفو ويصفح عن أصحاب الهفوات والزلات والأخطاء، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار»صحيح مسلم (2759) مع غناه ـ جل في علاه ـ عن العباد وعن أعمالهم.
ومن عظيم رحمته: أنه يفرح بتوبة التائبين، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بفلاة فانفلتت منه وعليها متاعه وطعامه وشرابه فأيس منها»صحيح مسلم (2745) أي: انقطع رجاؤه من أن يلقى هذه الدابة، فاضطجع يرقب ما يأتي وقد أيس من دابته فإذا بدابته فوق رأسه، فمن شدة الفرح قال: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح". هذا بيان لعظيم فرحة الله ـ عز وجل ـ وتقريب ذلك بالمثال المشاهَد المبصَر ليعرف الناس عظيم الرحمة التي عند الله عز وجل.
ومن رحمته بعباده: أنه يبدِّل سيئات المسيئين حسنات، وقد قال الله ـ تعالى ـ: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾[الفرقان:70].
ومن رحمته وهو أجلُّ أوجه الرحمة في الآخرة: أن يدخِل عباده المتقين الرحمة، وقد قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[آل عمران:107]، فنسأل الله أن نكون من أهلها. وقد قال في الحديث الصحيح من حديث أبي هريرة في الجنة: «أنتِ رحمتي أرحم بكِ من أشاء»صحيح البخاري (4850)، وصحيح مسلم (2846).
فنسأل الله أن نكون من أهل الجنة الذين هم أهل الرحمة والعطاء وأهل الفوز والإحسان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذه بعض آثار رحمة الله، فأسأل الله أن يجعلنا من أوفى الناس حظاً برحمته، ومن أوفرهم نصيباً من إحسانه وعطائه.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم: فادعوه بها، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.