الحمد لله رب العالمين، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناءً عليه كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو رب العالمين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيه وخليله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، حياكم الله في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم: فادعوه بها.
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، وأعنا على طاعتك، وخذ بنواصينا ربنا إلى ما تحب وترضى.
إن إقرار المؤمن بأن الله رب العالمين، وأنه الرب ـ جل في علاه ـ وأنه رب السماوات والأرض؛ يملأ قلبه تعظيماً لله ـ سبحانه وبحمده ـ لأنه يشهد هذه الربوبية في الخلق والرعاية والصيانة والتدبير، في كل شأن، في كل دقيقة من دقائق حياته ومفصل من مفاصل دنياه وكذلك في حياة ودنيا غيره، فإنه يشهد ذلك في السماوات وفي الأرض وفي كل شأن من الشئون، فينعكس شهود ذلك في قلبه تعظيماً لهذا الرب الذي له ما في السماوات وما في الأرض، الرب الذي يرزق كل حي، الرب الذي يدبر شأن كل شيء، فما من شيء إلا بأمره سبحانه وبحمده.
إن شهود صفة ربوبية الله ـ عز وجل ـ يملأ قلبك محبة لله، يملأ قلبك تعظيماً للرب ـ جل في علاه ـ يملأ قلبك إجلالاً له ـ سبحانه وبحمده ـ فما من حركة ولا سكون في الكون كله، في السماء، في الأرض، وفي البر وفي البحر، وفي الخاص وفي العام إلا بأمره ـ جل في علاه ـ سبحانه وبحمده لا نحصي ثناءً عليه، فينعكس ذلك في القلب إجلالاً لله ـ عز وجل ـ محبة له، ذلاً وانكساراً بين يديه ـ سبحانه وبحمده ـ فيمتلئ القلب إيماناً به وتوحيداً له وإقبالاً عليه، فأي اختلال في المسيرة يكون بسبب نقص شهود ربوبية الله ـ عز وجل ـ لذلك استدل الله ـ تعالى ـ على أنه الله المستحق للعبادة بأنه رب العالمين سبحانه وبحمده.
إن العبد إذا امتلأ قلبه بربوبية الله ـ عز وجل ـ وشهد ذلك في السماء والأرض وشهد ذلك في كل شيء؛ رضي أن الله ربه، عندما يرضى أن الله ربه سيفوز بلذة لا يجدها إلا المؤمنون، ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾[الانفطار:13]، ولذلك جاء فيما رواه الإمام مسلم من طريق عامر بن سعد عن العباس بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً»صحيح مسلم (34).
يقول القاضي عياض ـ رحمه الله ـ في معنى هذا الحديث: «ذاق طعم الإيمان» أي: صح إيمانه واطمأنت به نفسه وخامر باطنه، لأن رضاه بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبلغه رضا الله جل في علاه.ينظر إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض (1/270)
ومن رضي الله عنه جاءته السعادات من كل جانب، فاطمأنت نفسه وانشرح قلبه ووجد سكوناً وطمأنينة لا يجدها في غير الإيمان، ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[الرعد:28]، رأى إحسان الله في كل شيء فرضي به ـ جل في علاه ـ ومن رضي بالله رضي الله به وأعطاه على رضاه لذة الدنيا وفوز الآخرة.
إن من ثمار الإيمان بهذا الاسم ومن آثاره المباركة: أن يمتلئ القلب افتقاراً إلى الله، إذا علمنا أن الله ربنا فما معنى أن الله ربنا؟ أنه المالك لنا، فنحن ملك له ـ جل في علاه ـ أنه الخالق لنا ـ جل في علاه ـ ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾[الطور:35] تبارك الله رب العالمين خالق كل شيء ـ سبحانه ـ والله خالق كل شيء ـ جل في علاه ـ وأنا وأنت من هذه الأشياء التي خلقها الله تعالى.
أيضاً إذا امتلأ قلبك بأن الله هو المصرف لشئونك، وهو المدبر لأمرك، وهو القائم عليك في كل ما يكون منك، فما من حركة ولا سكون، فتحريك هذه الإصبع، وجريان الدم في عروقنا سواء كان أمراً اختيارياً أو أمراً تدبيرياً من الله ـ تعالى ـ بدون اختيار منا، كله من الله ـ جل في علاه ـ فإذا كان العبد على هذا الوجه من أنه لا يكون منه شيء إلا من جهة ربه ـ سبحانه وبحمده ـ فما من حركة ولا سكون إلا بتدبير الملك القيام ـ جل في علاه ـ فإن القلوب تطمئن وتمتلئ افتقاراً لله ـ عز وجل ـ وإذا افتقرت إلى الله ـ عز وجل ـ توكلت عليه وفوضت الأمر إليه وأسندت كل شيء إليه ـ سبحانه وبحمده ـ ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[الملك:1].
إذا امتلأ القلب بذلك شعر الإنسان بعظيم فقره إلى الله، والله ـ تعالى ـ قد أخبرنا بفقرنا إليه فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾[فاطر:15]، وهذا ليس تعييباً للخلق، بل هو توصيف لحالهم، يعين لما قال الله ـ تعالى ـ : ﴿أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾ لم يسبنا ولم يعيبنا ولم يذكر النقص الذي فينا، إنما ذكر ذلك لنتعرض لغناه، ونعرف أننا لا غنى بنا عن فضله وإحسانه وجوده، ولذلك قال: ﴿وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾[فاطر:15] أي: فاسألوه، وإذا عرضنا فقرنا على غناه اغتنينا به ـ جل وعلا سبحانه وبحمده ـ فلذلك ينبغي أن يستشعر الإنسان هذا الفقر، وهذا الفقر ضروري لا ينفك عنه الناس، ولا يمكن أن ينفك عنه أحد مهما كان في الغنى، ومهما كان في المنصب، ومهما كان في الجاه، ومهما كان في الملك، ومهما كان في متع الدنيا فهو إلى الله فقير، إنه فقير ولو غاب عنه فقره، وبعض الناس يرى أنه اغتنى ويطغى، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾[العلق:6-7]، لكن هذا الذي كبُرت نفسه بما أعطاه الله ـ تعالى ـ من العطايا ولما عنده من الأموال ولما معه من الممتلكات وما إلى ذلك؛ فمن الذي يجري الدم في عروقه؟ ومن الذي يجعله يسمع ويبصر ويتحرك؟ إنه الله ـ جل في علاه ـ فأين غناه؟ أليس من الأغنياء وأصحاب الأموال والملك والجاه والمناصب من يفتقر في حالة ولحظة فيفقد سمعه أو يفقد بصره أو يفقد صحته فيطلبها في الدنيا بأموال الدنيا كلها ولا يجدها؟ بلى، هذا دليل فقر الإنسان، هذا دليل الفقر والضعف، إنه لا يمكن أن يستغني الإنسان عن الله ـ عز وجل ـ فمهما تصور أن ما معه من الأموال والغنى سيغنيه فهو الفقير، ولا ينفك عن الفقر، وحاجته إلى الأمور الطبيعية من دلائل فقره، أليس يجوع؟ أليس يعطش؟ أليس يحتاج إلى قضاء حاجته؟ وقد قيل لبعض الملوك: أرأيت لو أن الله ـ تعالى ـ حبس عنك إخراج البول بم تفتدي ذلك؟ قال: بنصف ملكي. يعني: أدفع نصف ملكي على أن يمكنني من قضاء حاجتي، فإذا كان نصف ملك في مقابل التمكين من إدرار البول فلا قيمة لهذا الملك، نعم حقيقة أنه لا قيمة لذلك كله إزاء نِعَم الله ـ عز وجل ـ إزاء عطاياه جل في علاه.
هذا مما يملأ القلب فقراً إلى الله ـ تعالى ـ أن تستشعر أنك لولا الله لست بشيء، ولولا عطاؤه ـ جل في علاه ـ ولولا إحسانه، ولولا رعايته، ولولا قيامه بك وتيسيره لك ما يسر، فإنه لا يمكن أن تستقيم أمورك ولا تصلح أحوالك، لذلك كان الكبراء من عباد الله مستشعرين فقرهم إلى الله ـ جل وعلا ـ مستشعرين حاجتهم إليه ـ سبحانه وتعالى ـ فيلهجون بدعائه وسؤاله والرجوع إليه، وتذكر نِعَم الله عليك مما يزيدك إيماناً بربويته ـ جل في علاه ـ ولهذا يمن الله ـ تعالى ـ على عباده ويذكّرهم بأوجه النعم التي مَنَّ الله ـ تعالى ـ بها عليهم عامة وخاصة حتى يعتبر الناس ويتعظوا، لأن الإنسان يطغى إذا رآه قد تمكن من الدنيا، تمكن من الأشياء غاب عنه ربوبية الله ـ تعالى ـ وظن أن هذا بقدرته، هذا بعلمه، هذا بماله، هذا بميراثه كابراً عن كابر وما إلى ذلك من أسباب الاستكبار التي يقع فيها كثير من الناس.
إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكَّره الله بإنعامه وإفضاله في سورة الضحى، فقال في ذِكْر أنواع من الربوبية التي مَنَّ بها على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾[الضحى:6-8]، هذه أوجه الإحسان التي امتن الله ـ تعالى ـ بها على رسوله، ابتدأها الله أولاً بالترتيب الزمني، يعني: هذا ليس ترتيباً لأفضل النعم، إنما ترتيب لحدوثها: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾ آواه ويسر له من يقوم بشأنه.
﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ لم يكن على رسالة فمنَّ الله عليه بخاتم الرسالات.
﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ لم يكن ذا مال فمنَّ الله ـ تعالى ـ عليه بأن كانت الدنيا تحت يده ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولو شاء الله لقلب الجبال والأنهار ذهباً وفضة، لكنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ اختار أن يكون عبداً رسولاً.
هكذا كانت الربوبية حاضرة في تذكير الله ـ تعالى ـ لرسوله، وهكذا ينبغي أن نتذكر ربوبية الله ـ تعالى ـ لنا في الدقيق والجليل.
ولنتأمل جميعاً تذكير الله ـ تعالى ـ لنا بنعمه التي لا ننفك عنها، ما في إنسان ينفك عن هذه النعم، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾[النحل:78]، من الذي رعاك في بطن أمك؟ من الذي قام بشأنك في تلك الظلمات فأمدك بالرزق؟ إنه رب العالمين. من الذي يسر لك أماً تحنو عليك وترضعك وتقوم بشأنك وأنت لا تملك نفعاً ولا ضراً؟ إنه الله رب العالمين. من الذي مكَّنك من سمع وبصر وإدراك تحصل به المنافع وتدرك به الخيرات؟ إنه رب العالمين، هذا ليس في زيد وعبيد وفاطمة ورقية، إنه في كل العباد، ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ﴾[النحل:78] نحن جميعاً أخرجنا الله من بطون أمهاتنا.
﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[النحل:78]، أليس من هذا إنعامه وهذا إحسانه مستحق أن يستحضر الناس ربوبيته وأنه رب العالمين؟ تبارك الله رب العالمين.
أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه في هذه اللحظة، وإلى أن نلقاكم في حلقة جديدة من برنامجكم: فادعوه بها، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.