الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد وإليه ترجعون، أحمده جل في علاه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، أهلاً بكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم: فادعوه بها.
ما زلنا نتفيأ ظلال ذلك الاسم العظيم لرب العالمين إنه اسم الله تعالى (الرب) رب العالمين.
الله ـ جل وعلا ـ خص هذا الاسم في كتابه الحكيم بخاصية تلحظها في قراءة أدعية النبيين، وما ذكره الله ـ تعالى ـ من دعاء المرسلين، فإن دعاء أنبياء الله ـ عز وجل ـ في غالب ذكره مفتتح ومبتدأ بذكر صفة الربوبية، آدم وحواء ألقى الله ـ تعالى ـ عليهما كلمات تعلما منها الأوبة والرجوع إلى الله ـ تعالى ـ بعد الخطأ، فكان من الكلمات التي ألقاها الله ـ تعالى ـ لآدم وحواء بعدما جرى من أكل الشجرة التي نهاهم الله ـ تعالى ـ عنها أن قال: ﴿قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[الأعراف:23]، فتوسل إلى الله ـ تعالى ـ بربوبيته التي تقتضي إحسانه وعطاءه وبره ورحمته وكفالته وقيامه بعبده جل في علاه.
كذلك بقية الأدعية القرآنية كلها تبتدئ في الغالب بذكر هذا الوصف وهو ذكر ربوبية الله ـ تعالى ـ نوح ـ عليه السلام ـ قال: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا﴾[نوح:28].
وإبراهيم ـ عليه السلام ـ لما قام بما أمره الله ـ تعالى ـ به من بناء البيت قال في دعائه: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[البقرة:127].
موسى ـ عليه السلام ـ قال: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾[الأعراف:151].
عيسى ـ عليه السلام ـ قال: ﴿رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾[المائدة:114].
وقال خاتم النبيين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أدعيته التي ذكرها الله ـ تعالى ـ في خواتيم سورة البقرة: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾[البقرة:286]، كلها أدعية مفتتحة بهذا الاسم، ولماذا تفتتح الأدعية القرآنية في غالبها بذكر الربوبية؟ السر في ذلك: هو أن الربوبية تقتضي العطاء، تقتضي التمكين، تقتضي الرزق، تقتضي التدبير، تقتضي العناية والقيام بشأن العبد، لذلك كانت مفتتحة تلك الأدعية المباركة في كتاب الله ـ عز وجل ـ بذكر الربوبية، وفي مقام الحمد والثناء يأتي ذكر الألوهية: اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت سبحانك، اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، وما أشبه ذلك من الأدعية النبوية التي تفتتح بالإلهية، وانتبه! كل ما افتتح دعاء بالربوبية فإنه سؤال وطلب، وكل ما افتتح دعاء بالإلهية فإنه تمجيد وتقديس، هذا هو الغالب، هناك استثناءات فيأتي مدح وثناء بعد الربوبية أو يأتي سؤال بعد الإلهية؛ لكن هذا استثناء، والأصل في الأدعية أنه إذا افتتحت بالربوبية فيأتي بعدها السؤال والطلب، وإذا افتتحت بالإلهية فيأتي بعدها التمجيد والتقديس، وأرخ سمعك لذلك وأحضر قلبك وانتبه، وستجد أن هذا الفارق مطرد في الأدعية سواء كانت القرآنية أو الأدعية النبوية، وهي خير الأدعية وأجمعها لخير الدنيا والآخرة.
إن هذا الاسم المبارك من أبرز الأسماء التي يتحقق بها ما أمر الله ـ تعالى ـ به في الأسماء، فالله ـ تعالى ـ يقول: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾[الأعراف:180]، هكذا يأمر الله ـ تعالى ـ المؤمنين يقول: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾[الأعراف:180]، ويقول: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ﴾[الإسراء:110]، فاسم الرب هو من الأسماء التي يبرز فيها جانب دعاء المسألة والطلب؛ لأن قوله ـ تعالى ـ: ﴿فَادْعُوهُ بِهَا﴾[الأعراف:180]، يشمل معنيين في الدعاء:
المعنى الأول: دعاء المسألة والطلب، وهو سؤال الحاجات وإغاثة اللهفات وقضاء المرغوبات وطلب خير الدنيا والآخرة.
أما النوع الثاني:فهو دعاء الثناء والتمجيد والتقديس، فكذلك هذا الاسم له حظ من ذلك، كقوله ـ تبارك وتعالى ـ: ﴿تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[الأعراف:54]، فهذا تمجيد وتقديس، وهذا دعاء، لكنه دعاء عبادة، ودعاء ثناء، وليس دعاء طلب، ومنه: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الفاتحة:2].
إذاً: من خصائص هذا الاسم الذي اختص به: هو أنه من أكثر الأسماء تحقيقاً لدعاء الطلب الذي أمر الله ـ تعالى ـ به أهل الإيمان في قوله ـ جل وعلا ـ: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾[الأعراف:180].
من خصائص هذا الاسم: أن معناه مقرر في الفطر، جميع الخلق مقرون بأن الله ربهم، ليس ثمة في الخلق من يقول: إنه لا رب له إلا الجاحدون المستكبرون وهم قلة، لذلك لم يذكرهم الله ـ تعالى ـ في كتابه ولم ينوه بذكرهم لأنهم شذاذ، الذين ينكرون الربوبية ويقولون: لا إله هؤلاء شذاذ، يكذبون ما في قلوبهم مما لا يمكن جحده ولا يمكن التعامي عنه، وتلك الضرورة التي في القلوب التي تلح على الإنسان بأن يقر بأن له رباً، قال الله ـ جل وعلا ـ: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾[الروم:30]، يقول الله ـ جل وعلا ـ كذلك في محكم كتابه فيما ذكره عن فرعون: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾[النمل:14]، فذلك أمر لا يمكن أن تتجاوزه النفوس أو تعلو عليه أو تخرج عنه، بل لابد من الإقرار به.
إذاً: هذا من خصائص هذا الاسم ـ اسم الرب ـ أنه من الأسماء التي ركزت في الفطر، معناها قائم في القلوب، لا يمكن لأحد أن يتجاوزها أو أن يخرج عنها.
من خصائص هذا الاسم الكريم التي ميز الله ـ تعالى ـ بها هذا الاسم: أنه اسم عام لجميع خلقه، لا يخرج عن ذلك ملك كريم ولا رسول أمين ولا سائر الخلق أجمعين، فالملك والمملوك كلهم عبيد لله ـ عز وجل ـ وكلهم مربوبون، وكلهم مقهورون، وكلهم أذلاء بين يديه ـ جل وعلا ـ بل أعظم الناس استكباراً فرعون عندما قال لقومه: أنا ربكم الأعلى، فأذله الله ـ تعالى ـ وجعل آخر ما تكلم به: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾[يونس:90]، لكنه لم يسلمه ذلك من العقوبة، ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى﴾[النازعات:25]، لذلك منازعة الله ـ تعالى ـ في ربوبيته من أعظم ما تستوجب العقوبة، ومن سمت نفسه أن ينازع رب العالمين ما له من الخصائص فإنه ذليل، ولذلك جاء في الصحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: {إن أخنع اسم عند الله ـ أذل اسم وأخبث اسم ـ رجل تسمى ملك الأملاك}صحيح مسلم (2143)، هكذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ما رواه البخاري ومسلم: {أخنى الأسماء يوم القيامة عند الله رجل تسمى ملك الأملاك}صحيح البخاري (6205)، وفي رواية: {أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه, وأغيظه رجل كان يسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله}صحيح مسلم (2143)، فالملك لله ـ جل وعلا ـ وكل ما سواه مملوك مقهور مربوب، ولذلك اشتد غضب الله ـ تعالى ـ على من نازعه في ربوبيته أو نازعه في إلهيته جل في علاه.
إن من خصائص هذا الاسم المبارك (رب العالمين): أنه يدل على سائر أسماء الله ـ جل وعلا ـ فدلالته على سائر الأسماء بينة، ولذلك اسم الرب متضمن لإثبات الكمال لله ـ جل وعلا ـ في أسمائه، في صفاته، في أفعاله، فربوبية الله ـ تعالى ـ متضمنة لهداية الخلق إلى ما فيه نفعهم، إلى ما فيه صلاحهم، إلى ما فيه نصرهم، يقول ابن القيم في كلام له على قوله ـ جل وعلا ـ: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الفاتحة:2]، قال: فلا يليق به وهو رب العالمين سبحانه وبحمده أن يترك عباده سدى، أن يتركهم هملاً، لا يعرفهم ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم، ولا يعرفهم ما يضرهم في معاشهم ومعادهم.مدارج السالكين (1/31) فهذا مقتضى ربوبيته أنه رب العالمين أن يدل الناس على ما فيه منافعهم ومصالح دنياهم ومصالح أخراهم، وأن يحذرهم ما يفسد معاشهم ويضرهم في معادهم.
من خصائص هذا الاسم: أنه أول اسم تسمى الله ـ تعالى ـ به في خطابه لرسوله، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾[العلق:1]، فلما جاء الوحي إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذه الآية كان أول اسم ذكره الله ـ جل وعلا ـ اسمه الرب، ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾[العلق:1-4]، وذلك لما في هذه الربوبية من العناية واللطف، من الهداية والتوفيق، فلذلك فيها من انجذاب القلب إلى الله ـ جل وعلا ـ محبة وتعظيماً وقرباً وولاية ما ليس في غيره من الأسماء، ولذلك قال ـ جل وعلا ـ لرسوله في هذا الموقف المدهش الصعب وهو مجيء الرسول الكريم جبريل في أول مجيئه قال له: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾[العلق:1]، وذلك لتسكين فؤاده، وأن هذه الرسالة من الرب ـ جل وعلا ـ وهذا يقتضي الطمأنينة، يقتضي التأييد، يقتضي الإعانة، يقتضي التسديد، دلالات كثيرة مستفادة من افتتاح الرسالة بهذا الاسم الكريم: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾[العلق:1-4].
اللهم إنا نسألك من فضلك وإحسانك وجودك أن تصلح قلوبنا، وتغفر ذنوبنا، اللهم يسر أمورنا واشرح صدورنا، اللهم اجعلنا من أوليائك وحزبك يا ذا الجلال والإكرام، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم: فادعوه بها، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.