الحمد لله له الأسماء الحسنى والصفات العلى، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناءً عليه كما أثنى هو على نفسه جل في علاه، أحمده فهو أجل من حُمِد، وأعظم من ذُكِر، لا يحيط العباد بكمالاته، ولا تحيط الألسن بما له من صفات الجلال له الحمد كله، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، أحمده كما يحب ويرضى.
وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة أرجو بها النجاة من النار، والفوز بالجنان، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، بعثه الله بالأنوار والهدايات، وأخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم سبل السلام، وبصرهم من العمى، ودلَّهم إلى جنات الدنيا وفوز الآخرة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم: فادعوه بها.
قال الله ـ جل في علاه ـ: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[الأعراف:180].
الله ـ جل وعلا ـ يخبرنا وهو رب العالمين، ويدلنا عليه، ويعرفنا به، فيقول: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾[الأعراف:180] له وحده جل في علاه، ليس لأحد سواه.
الأسماء الحسنى أي: الأسماء التي بلغت في الحسن غايتها، وفي الحسن منتهاها، فليس شيء أحسن من أسماء الله ـ تعالى ـ ما من اسم من أسماء الله ـ تعالى ـ إلا وهو في الغاية والنهاية في الجمال والبهاء والحُسْن والكمال، ليس فقط في المعاني، بل حتى في الألفاظ، فأسماء الله حسنى في ألفاظها، فليس في أسماء الله ـ تعالى ـ ما تنفر منه النفوس، أو تنبو عنه الآذان، أو تقف عنده القلوب، بل كلها أسماء حسنى في ألفاظها، فليس في أسمائه شيء لا تحبه النفوس، أو ترى فيه نقصاً أو عيباً من حيث اللفظ، أما المعنى فلا ريب أنه ـ جل في علاه ـ قد دل بتلك الأسماء التي أخبر بها على عظيم المعاني وجليل المدلولات، فأسماؤه ـ سبحانه وبحمده ـ حسنى في معانيها، فهي دالة على كمال الله ـ عز وجل ـ وعلى عظيم صفاته وعلى ما له ـ سبحانه وبحمده ـ من جليل الصفات، فهو الجميل على الحقيقة كيف لا؟! وجمال سائر هذا الكون منه جل وعلا.
هو الجميل ـ سبحانه وبحمده ـ وهذا الكون بما فيه إنما هو من جماله ـ جل في علاه ـ في صنعه وبديع خلقه، ومن بعض آثار الجميل وصنعه ـ جل في علاه ـ فهو الأولى والأحق بكل جمال.
أسماؤه حسنى وصفاته علا، ولذلك قال ـ جل وعلا ـ: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[النحل:60]-.
إن جماله ـ سبحانه وبحمده ـ وبهاء صفاته أخبر به في كتابه على وجه الإجمال، فقال: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾، فلله المثل الأعلى، يعني: الصفة العليا، فالأسماء تتضمن صفات، وكلاهما في الكمال بلغ الذروة والنهاية، وبلغ أعلى ما يكون من كمال، وأعلى ما يكون من جلال في أسمائه وصفاته، لذلك كانت أسماؤه وصفاته من طرق العلم به، ومن طرق معرفته جل في علاه، فمن طرق العلم بالله ـ عز وجل ـ الذي جاءت به الرسل: العلم بما له ـ جل وعلا ـ من الأسماء والصفات فإذا علم الناس ما لله ـ عز وجل ـ من الأسماء والصفات أحاطوا علماً به ـ سبحانه وبحمده ـ وتعرَّفوا عليه ـ جل في علاه ـ واقتربوا من ربهم ـ سبحانه وبحمده ـ وتحققوا في أنواع العبادة التي تجب له سبحانه وبحمده.
لقد كان القرآن الكريم معتنياً بهذا أكبر اعتناء، وأعظم اهتمام كان في بيان ما لله من الصفات، لهذا فأول آية أنزلها الله ـ تعالى ـ في محكم كتابه هي الآية التي ذكر فيها كماله ـ سبحانه وبحمده ـ فقال ـ جل وعلا ـ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ﴾[العلق:1-3]، هذا أول ما افتتح الله ـ تعالى ـ به الرسالة أن ذكر صفاته في مرغبات القراءة والمطالعة والتعلم ذكر عن ماذا تقرأ؟، وماذا تضمنته هذه الرسالة؟ إنها تضمنت التعريف بالله ـ عز وجل ـ والتعريف بالله الذي لا إله إلا غيره ـ سبحانه وبحمده ـ فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ﴾[العلق:1-3].
ليس في الدنيا كتاب يعرِّف بالله ـ عز وجل ـ ويدل عليه مثل القرآن، لذلك أقبِل على القرآن، ودليل هذا: أن الله افتتح رسالته وكلامه بذكر الأسماء والصفات: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ﴾[العلق:1-3]، فذكر اسماً وذكر فعلاً وذكر وصفاً، أليس هذا دالاً على أن القرآن قد اعتنى ببيان أسماء الله، وببيان صفاته، وببيان أفعاله الدالة على عظمته؟ بلى، ثم أعظم آية في كتاب الله ما هي؟ إنها تلك الآية التي سأل فيها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ فقال له: «أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم، فأعاد عليه» فأخبر أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ باجتهاده -وهو من خواص الصحابة علماً ومعرفة- فقال في تعريف: «أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: الله لا إله إلا هو الحي القيوم»صحيح مسلم (810) آية الكرسي التي نحفظها ونقرؤها ويحفظها صغارنا وكبارنا، هي أعظم آية في كتاب الله، لماذا كانت آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله؟ العظمة هنا هي عظمة بالمضمون، ليس في الطول، فهناك أطول منها كآية الدين، وأكثر منها حروف وكلمات، فالعظمة لا تتعلق بكثرة ما في الآية من حروف وكلمات، إنما العظمة في هذه الآية في مضمونها، تأملوا ما هو مضمون هذه الآية، اقرءوها بتدبر وفِكْر، لا نقرأها هكذا كأي كلام نقرؤه ولا نقف عند معانيها.
﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾[البقرة:255].
هذه الجُمَل كلها تصف الرب ـ جل في علاه ـ وتبين ما له من الكمالات، ابتدأها بذكر الإلهية: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ ثم ذكر وصفين: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، ثم نفى عنه أي نقص في صفاته: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ﴾، ثم بيَّن عظيم ملكه: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾، ثم بيَّن أن هذا الملك لا نصيب فيه لأحد ولو حتى بالشفاعة: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، ثم بيَّن سعة علمه: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾، ثم بيَّن أن العباد لا يحيطون بشيء من هذا العلم الواسع: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾ ولا بأقل شيء من علمه، ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ هذا خلق من خلقه، وهو الكرسي وسع السماوات والأرض، فدل على أن هذه السماوات والأرض ليست أعظم مخلوقات الله، بل الكرسي وسع السماوات والأرض، ﴿وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ أي: حفظ هذا الكون، حفظ السماوات والأرض، ولا يئوده حفظها: لا يثقله، لا يتعبه ـ جل في علاه ـ فهو القوي ـ سبحانه وبحمده ـ القدير جل في علاه.
بعد أن ذكر تلك الصفات قال: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾، نظرتم كيف كانت هذه الآية أعظم آية في كتاب الله؟ إنها كانت أعظم آية في كتاب الله؛ لما احتوته من المعاني الجليلة في وصف الرب الكريم ـ سبحانه وبحمده ـ لذلك كان أشرف العلوم: العلم بالله.
ما هي السورة التي ورد في فضلها أنها تعدل ثلث القرآنصحيح البخاري (6643)، وصحيح مسلم (811)؟ إنها سورة الإخلاص التي نحفظها ونحفظّها أولادنا، ونقرأها صباح مساء: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وََلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾[الإخلاص:1-4].
لماذا تبوأت هذه المنزلة، وكانت هذه السورة على قلّة كلماتها وآياتها؟! لماذا بلغت أنها تعدل ثلث القرآن؟ إنها بلغت هذا المبلغ؛ لأنها صفة الرحمن ـ جل في علاه ـ لذلك من المهم لكل مؤمن ومؤمنة أن يتأمل هذه الآيات، وإذا قرأ القرآن يفكر ولا يقرؤه بسرعة دون فِكْر ودون تأمل، بل قف عند الآيات وفكِّر سواء كنت تقرأ أو تسمع وسينفتح لك باب من العلم عظيم، وسينفتح باب من التلذذ بالقراءة عظيم، حتى يكون سماع القرآن وتكون قراءته أحب إليك من كل شيء لما في هذا الكتاب من عظيم المعارف وكبير العلوم.
الآن بعض الناس يقول: أنا قرأت كتاب العالم الفلاني والمفكر الفلاني، أنت يا أخي لا بأس أن تقرأ هذه الكتب وتستفيد، ولكن ما هو نصيبك من قراءة كتاب رب الكون، الله الذي بيده الملك؟ بقدر ما معك من قراءة القرآن تنفتح لك المعارف والعلوم.
لهذا من المهم أن يقبِل كل أحد منا على كتاب الله ـ عز وجل ـ ليس طلباً للأجر في قراءته فحسب، فالأجر يتفاوت بقدر ما مع الإنسان من المعرفة، وبقدر ما مع الإنسان من العلم، وبقدر ما مع الإنسان من الفهم، لهذا أقبِل على القرآن بقراءة تدبر وسينفتح لك معرفة أسماء الله ـ عز وجل ـ وصفاته التي كان القرآن معتنياً بها، فما من آية من آيات الكتاب إلا وفيها ذكر اسم من أسمائه أو صفة من صفاته أو فعل من أفعاله ـ جل في علاه ـ فكلها تعرِّف بالله، والقرآن دائر بكل ما فيه على التعريف بالله ـ عز وجل ـ وهذا هو العلم الأساس والأول، وعلى التعريف بالطريق الموصِل إلى الله جل في علاه.
فلنعتني بالقرآن، ولنعتني بما جاء في سنة خير الأنام ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه بيَّن القرآن ووضّحه، لهذا كان علم المتقدمين شريفاً عالياً؛ لأنه لم يكن مشتغلاً بأنواع من العلوم بعيدة عن تحقيق الغاية والمقصد، والغاية والمقصد هو العلم بالله، والعلم بالله من طرقه الأكيدة والكبرى: أن تكون عالماً بأسمائه وصفاته، ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[الأعراف:180].
أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم: فادعوه بها، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.