المقدم:- خطة نوح مع أهل بيته وردت في كتاب الله وفي سنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- قصها المصطفي –صلى الله عليه وسلم- وأيضًا وردت متفاوتة ومختلفة في كتاب الله، فمرة جاءت مع ولديه ومرة مع ابنه ومرة مع زوجه، لو بينتم وفصلتم الحديث في هذه المواقف التي ألمح إليها الله –سبحانه وتعالى- في محكم التنزيل.
الشيخ:- الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع أثره واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين أما بعد..
فالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم هم بشر من الناس كما قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ الحج: 75 فمهما سمت منازلهم وعلت مراتبهم فهم لا يخرجون عن الطبيعة البشرية، ولذلك سيد ولد آدم –صلى الله عليه وسلم- أمره الله تعالى أن يقول: ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ فصلت: 6 فالنبي –صلى الله عليه وسلم- وهو سيد ولد آدم وهو الذروة في الأنبياء فضلًا ومنزلة ومكانة لم يخرج عن الطبيعة البشرية والتكوين البشري الذي بطبيعته يرتبط بأنواع من العلاقات والصلات.
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا من البشر الذين لهم آباء ولهم أمهات ولهم أقارب ولهم قوم ولنا فيهم أسوة حسنة في كل نواحي حياتهم، فهم أئمة في الهدى وسادات في التقى ومقدمون في الخير في كل جوانب الحياة، ليس فقط في دعوتهم التي بلغوها بألسنتهم فيما نقلوه عن رب العالمين، بل في ممارستهم وما جرى من أحداث زمانهم هم أسوة وقدوة صلوات الله وسلامه عليهم.
في هذه الحلقة إن شاء الله تعالى سنتناول نوح عليه السلام مع أهله وأهله هم خاصته ومن يحيط به من أقاربه وذوي الصلة به، نوح عليه السلام دعا قومه ووجد من قومه صلفًا واستكبارًا وعنادًا نوع صلوات الله وسلامه عليه أوجه الدعوة وأساليب التقريب وأساليب الهداية بالمحاجة بالموعظة بتبرئة النفس من طلب أي فوائد من هذه الدعوة كما وصف الله –جل وعلا- فيما قصه من قوله عليه السلام ﴿ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا﴾ نوح: 5 وهذا في استيعاب الوقت كله زمانًا وليلًا ونهارًا وكذلك في الأساليب ﴿ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ نوح: 9- 10 سلك كل السبل عندما يواجه فيها الإنسان صعوبة في قبول ما يقول من الأباعد يقع في نفسه شيء من التعب بالتأكيد لاسيما مع هذه الشفقة والرحمة التي ملأ الله تعالى بها قلوب الأنبياء على أقوامهم وعلى الناس في هدايتهم لكن لما تكون القضية فيما يتصل في أهل بيتك، وتجد معارضة وعدم قبول من أهل بيتك وخاصتك الذين هم ألصق الناس بك وأنت أحنى الخلق عليهم، تجد من الألم والمشقة والمعاناة ما لا تجده من رفض وعدم قبول الأباعد أليس كذلك؟
المقدم:- بلى.
الشيخ:- بالتالي لما ننظر في سيرة نوح عليه السلام، نحن أخذنا جانب من ما ذكره الله تعالى في معاملة قومه له من الصدود والاستكبار وعدم القبول، لكن عندما ننظر إلى السورة الأخرى فيما يتعلق بخاصة أهل بيته الذين يأوي إليهم ويجلس معهم ويبث إليهم الشكوى ويشاركهم المعاش، يجد أمرًا يبين عظيم ما كان يلقاه هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه.
المقدم:- وهذا غاية الألم شيخ خالد أن يكون أهل بيته هم من يعارضه أو هم من يثبته في الدعوة.
الشيخ:- بالتأكيد ولذلك يكون الألم مضاعفًا من جهات من جهة أولًا عدم قبول الحق هذا في حد ذاته مؤلم ولو كان الرافض له عدم القابل بعيد من جهة أن الرافض له من لك بك صلة من تحدب عليه وتخاف عليه وتحن عليه وتعطف عليه تجد ألمًا تمامًا لو أن ابنا لك تقول له يا ولدي يا تسير في هذا الطريق أو يا ابنتي لا تسيري في هذا الطريق ثم هي ترفض أو هو يأبى ويمشي في طريق معروف نهايته أنه إلى هاوية أو إلى مهلكة، بالتأكيد أنك فوق رفضك لهذا الطريق والمسلك الرديء أنت أيضًا تعمل عاطفة الأبوة عاطفة القرابة والنسب والوشيجة بينك وبينه، تؤثر في مدى آلمك.
هذا ما كان في نوح عليه السلام مع اثنين من أهل بيته، مع زوجته ومع ابنه فقد ذكرهما الله تعالى في كتابه الحكيم وبين ما كانا عليه من المخالفة لما كان عليه نوح عليه السلام.
الله –جل وعلا- يقول في محكم كتابه في خبر زوجة نوح ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا﴾ التحريم: 10 ما نوع الخيانة؟ هل هي خيانة فراش؟
ما زنت امرأة نبي قط. كما قال ابن عباس ترجمان القرآن رضي الله عنه ما بغت امرأة نبي قط وكذلك قالت عائشة وقال جماعة من أهل التفسير تفسير الطبري (12/429 وما بعدها) أنه لم يكن الخيانة المذكورة في الكتاب في هذه الآية لم تكن خيانة تتعلق بالفراش، إنما كانت خيانة تتعلق بجانب آخر والخيانة ليست محصورة فقط في جانب الفراش والشرف والعرض إنما هي أوسع من ذلك.
ولذلك قال النبي –صلى الله عليه وسلم- كما في المسند والسنن من حديث أبي هريرة «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» سنن الترمذي (1264)، وقال: حسن غريب بل الله –جل وعلا- قال: ﴿وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ النساء: 105 والخيانة أوسع من أن تنحصر في نوع من المخالفة أو صورة من صور الخطأ.
المقدم:- إذًا ما المقصود بالخيانة؟
الشيخ:- من المفسرين من قال: إنها كانت تدل على من يؤمن بنوح، فتخبر قوم نوح بمن آمن به قيل: إنها كانت تفشي أسراره وما يكون من شأنه هكذا قيل وقيل: إنها لم تكن على دينه وهذا من أكبر الخيانة لأنها رفضت الدعوة التي جاء بها زوجها وهي أخبر الناس بصدقه وحاله في السر والعلن، فكانت خيانتها في عدم استجابتها لدعوته وعدم قبولها لرسالته.
هذا مثل ضربه الله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ﴾ التحريم: 10 موضع المثل ما هو؟
سؤال: أين العبرة في هذا المثل نقرأ هذه الآية أين العبرة في هذا المثل؟ العبرة في هذا المثل أن مخالطة الكفار والمعارضين لأقرب الناس لهم إذا كانوا على غير الجادة إذا خالطوا المتقين فإن هذه الخلطة لا تنفعهم في النجاة من النار، ولذلك قال تعالى: ﴿كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾ التحريم: 10 فلا ينتفع الكافر من قرابته ومن صلته في وقاية العذاب إذا فعل ما يستوجبه هذه صورة من صور حال نوح عليه السلام مع أخص الناس علاقة به وهي زوجه، إن الله تعالى أخبر عن الخيانة وهي عدم الاستجابة وأن هذه الرابطة الزوجية التي كانت بين نوح وبين امرأته لن تنفعها في وقايتها من العذاب أو السلامة من النار.
المقدم:- لكن سبب التمثيل هنا في هذا الموضع بهذين النبيين زوجة هذين النبيين.
الشيخ:- لأن هذا هو الواقع.
المقدم:- لكن ألم يوجد غيرهم من الأنبياء من كانت زوجته؟
الشيخ:- لم يقول –جل وعلا- إلا هذا الخبر ولله فيما يذكر الحكمة البالغة ولعل آخرين من الأنبياء وقع لهم شيء من هذا، لكن هذا ما مثل الله تعالى به وضربه مثلا من شهرة هذين النبيين وذكرهما في الكتاب كثيرًا.
المسألة الأخرى أو الجانب الآخر في أهل نوح ابنه وهو فلذة كبده وبضعة منه مع هذا ذكر الله من خبره ما يستوقف المؤمن ولن يذكر الله تعالى خبرًا في دعوة نوح لابنه ابتداء إنما ذكرها في حالة يكون فيها الأب أشفق ما يكون على ابنه وأحرص على ما يكون من إنجائه، فإن الله تعالى لما أذن بهلاك قوم نوح بعد تلك المدة المتطاولة من الدعوة والبيان والهداية ذكر –جل وعلا- موقف نوح مع ابنه عندما ركب نوح السفينة فحمل من حمل من أهله كما أمره الله تعالى في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ هود: 40 فحمل من حمل معه مع أهله تخلف هذا الابن وقد كان في معزل بعيدًا عن نوح لا يخالطه وليس بقريب منه، فهذا البعد حال بين نوح وبين ابنه في الدعوة فلم يكن الله جل وعلا من هذه الدعوة شيئًا قبل هذا الموقف.
لكن لما وقع ما وقع رأى نوح ابنه، ولله حكمة بالغة أن يرى نوح ابنه في هذا الموقف العصيب حيث هتف بابنه من جهتين؛
من جهة الحرص على الإنجاء والحرص على الهداية لابنه،
والثاني: بدافع الأبوة فإن الأبوة لها تأثير في عطف الإنسان على ولده وحرصه أن ينجيه من المهالك فقال: ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾ هود: 42 هكذا بكل حنو ولطف يقدم دعوة لابنه اركب معنا ولا تكن مع الكافرين فدعاه إلى الركوب في السفينة للنجاة من الهلاك، والسلامة من مصائر ومآل الكافرين ﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾ هود: 43 فرفض الدعوة واستكبر وقال: أنا غني عن أن اركب معك في هذا المركب وأنا سآوي إلى جبل رفيع عالي يعصمني يمنعني من المنع لا يبلغني فيه الماء ﴿قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾ هود: 44 وهذا فيه تبليغ بأنه مهما فعلت للفراق من هذا المصير وهذا المآل فلن تنجو لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم فكن مع من رحم وهم من راكبو هذه السفينة قطعت المحاورة بأن حال بينهما الموج.
ثم ذكر الله تعالى المصير الذي آل إليه ابن نوح حيث قال جل في علاه: ﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ هود: 43 انتهى هل انتهت عاطفة الأبوة والحرص على نفع ولده؟ لا نادي نوح ربه ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾ هود: 45 توسل إلى الله تعالى فقال إن وعدك الحق الذي لا يخلف، وقد وعدتني بإنجاء أهلي، ثم مزيد من التوسل توسل إليه –جل وعلا- بصفته التي سبقت غضبه وهي رحمته جل في علاه وأنت ارحم الراحمين فتوسل إليه بهذين السببين لحصول ما يريد من إنجاء ابنه وسلامته فجاءه العتاب من رب العالمين ماذا قال الله تعالى له؟ ﴿يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ هود: 46 فنهى الله تعالى أول رسول عن أن يدعو بشيء ليس له فيه علم، وهنا عدم العلم هنا إما ناتج عن الغفلة وغلبة الأبوة والرحمة والشفقة وإما ناتج عن عدم الإدراك للمعرفة المعلومة، كلاهما يصدق على قوله –جل وعلا-: ﴿فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ هود: 46 فوعظه الله تعالى والوعظ هو الأمر والنهي المقرون بالترهيب والترغيب هذا معنى الوعظ، ﴿إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾ هود: 46- 47 هكذا استسلام لله –عز وجل- ورجوع مباشرة عن أن يكون ماضيًا فيما نهاه الله تعالى عنه، فاتعظ عليه أفضل الصلاة والسلام وكف عن الدعاء لولده ﴿إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ هود: 46- 47 فتوسل إلى الله –جل وعلا- برحمته في أن ينجيه من مسألته التي سأل بخصوصها.
هذه لمحة من اللمحات المتصلة بموقف نوح مع ابنه قبل الغرق، وأثناءه، وبعده.
المقدم:- ونواصل هذه اللمحات دكتور خالد بعد مداخلة من الأخ مسلم السحيمي تفضل مسلم بما لديك.
المتصل:- بسم الله الرحمن الرحيم شكرا لك أحمد ولشيخنا شيخ خالد شيخ الله يحفظك في مداخلتين؛ الأولى إضاءة في قول الله –عز وجل-: ﴿لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾ هود: 44 إشارة لنا جميعًا نحن مقصرين أن العصمة هي رحمة من الله –عز وجل- يؤتيها عباده المؤمنين.
الثانية:- وهي أن غرق ابن نوح عليه السلام عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم أنه يستحيل في مقام النبوة أن يسأل الله –عز وجل- أو أن يغلب عاطفة الأبوة على الرسالة التي كلف بها فهل هذا المقولة صحيحة؟ أن نوح كان يظن أن ابنه كان منافقًا ولذلك سأل الله –عز وجل- ويستحيل في مقام النبوة أن يسأل الله –عز وجل- شيئًا يخالف رسالته أو أن يقدم عاطفة الأبوة على الرسالة التي كلف بتبليغها بين الناس بالعدل والمساواة.
المقدم:- يعطيك العافية مسلم أتفضل يا شيخ خالد.
الشيخ:- بخصوص قول الله –جل وعلا-: ﴿لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾ هود: 44 هذه في الحقيقة كلمة مختصرة من نبي كريم صبر على أحوال بني آدم مع أقدار الله تعالى وأقضيته مدة متطاولة فوصل إلى هذه النتيجة إيحاء من الله –جل وعلا- وخبرًا وتجربة وواقعًا ﴿لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾ هود: 44 فلا يمكن أن ينجو الإنسان مما قدره الله –جل وعلا- من العقوبات التي أذن بها وأخبر أنها تحل للعصاة والمخالفين إلا بالرحمة وهي الالتزام بطاعة الله تعالى والأخذ بأسباب النجاة فإنه لا يمكن أن تجث فينا إلا بأسباب ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس، فبالتالي لابد من أخذ أسباب العصمة من الهلاك والعذاب وذلك التزام أمر الله –جل وعلا-.
ومهما فعل الإنسان من الأسباب فإنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع جل في علاه ولذلك قال: ﴿لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾ هود: 44 لا نجاة ولا فكاك من هذه العقوبات التي حلت وبدت تباشيرها وظهرت أوائلها إلا بالاعتصام برحمة الله تعالى فإنها سبب النجاة والفكاك من العقوبات.
المقدم:- إذًا هذا هو شيخ خالد سبب في دعوة نوح لابنه مع أن نوح عليه السلام في موضع آخر قال: ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ نوح: 26 يعني عاطفة الأبوة هي السبب في دعوة نوح لابنه؟
الشيخ:- هو بالتأكيد عاطفة الأبوة مؤثرة وكما ذكرت في المقدمة أن الأنبياء بشر يعتريهم ما يعترى البشر يحزنون ويجدون ألما وهذا حصل حتى مع نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- مع عمه أبي طالب لما فاته ولم يستجب لدعوته ومات على غير التوحيد وامتنع من قول لا إله إلا الله قال: «والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» صحيح البخاري (1360)، ومسلم (24) وهنا كمال نبوي لسيد ولد آدم –صلى الله عليه وسلم- نبينا محمد حيث ضبط هذه العواطف بامتثال أمر الله حيث قال: «ما لم أنه عنك».
نوح عليه السلام استجاب لهذه العاطفة بدعوة ولده أولًا، ثم لما هلك ظن أن هذا العموم في قوله –جل وعلا- ﴿وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ المؤمنون: 27 وأهلك إلا من سبق عليك القول منهم ظن أنه سيشمله في عمومه فقال: ﴿إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾ هود: 45 وتوسل بالوعد كما ذكرت ولكنه كان على غير صواب في هذا ولذلك قال له الله –جل وعلا-: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ هود: 46 فعاطفة الأبوة قومت في هذا الموقف حيث رد الله تعالى هذه العاطفة إلى ما يجب أن تكون وهو امتثال أمر الله تعالى وعدم التجاوز لحدوده جل في علاه.
ولذلك قال: ﴿إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ هود: 46 ولذلك استجاب نوح عليه السلام مباشرة لهذا التنبيه الإلهي فقال: ﴿أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ هود: 47
المقدم:- إذًا شيخ خالد لعل في هذا الموقف وفي هذا التشخيص الذي صورته وصوره المولي –سبحانه وتعالى- في كتابه في تسلية للآباء مع أبنائهم عندما يكون أبنائهم على حال أخرى على غير الاستقامة وغير الدين وغير المتابعة لما جاء به المصطفي –صلى الله عليه وسلم- يعني ربما تكون هذه مرتبطة بقصة نوح عليه السلام.
الشيخ:- بالتأكيد يعني هي فيها تسلية وأنه مهما بذل الإنسان من الأسباب لهداية من يحب فقد يحال بينه وبين هذه الهداية ولا يتحقق مراده ولا أدل على هذا من قوله –جل وعلا-: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ القصص: 56 فالهداية ليست هبات يهبها الإنسان من يشاء ويعطيها من يشاء، لاشك أن بذل الأسباب في يدك، لكن قبول القلوب ليس في يد أحد ولهذا انظر في قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ القصص: 56 يشير هنا إلى هداية القلوب لكن القلوب ليست بيد أحد يصوغها ويوجهها كيفما شاء، لكن نحن بأيدينا نبذل أسباب إنجاء الناس بهدايتهم.
ولذلك قال الله تعالى في وصف رسوله –صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ الشورى: 52 فالأب يجب أن يبذل من أسباب هداية ولده وكف الشر عنه والهداية تحصل بأمرين؛ بالدلالة على الخير ابتداء وإرشاد، وبالوقاية من أسباب الرداء والشر بكل صوره وذلك بإغلاق منافذ الشر وطرق الغواية حتى يسلم الابن.
نموذج أخير فيما يتعلق بصلة نوح بأهله ما ذكره الله تعالى من دعوة نوح لوالديه حيث قال تعالى: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا﴾ نوح: 28 فنوح عليه السلام بدأ بنفسه ثم ذكر والديه وهذا من العرفان والإقرار بالجميل وحفظ حق الوالد وقد دعا للوالدين وقد كانا مؤمنين به صلوات الله وسلامه عليهم، هنا تبدو الصورة في مقابل ما كان من موقف نوح عليه السلام من ولده ومن زوجه اللذين لم يستجيبا لدعوته موقفه مع من استجاب له في أهله حيث قال –جل وعلا- فيما قصه من دعاء نوح ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾ نوح: 28 ونحن بحاجة إلى أن نذكر والدينا وأن ندعو لهم.
أحياء كانوا أو أمواتًا فإن لهم علينا من الحق ما لا نوفيه إلا بالدعاء، وبذل المستطاع الممكن من الإحسان العملي والقول والحال.