أما بعد.
فالحج عبادة جليلة عظَّمها الله تعالى، وفرضها على الناس، وأمر إبراهيم -عليه السلام- بأن ينادي في الناس، ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾سورة الحج:27
هذا العمل المبارك الذي كان في الأمم السابقة، جاءت هذه الشريعة بتكميله، وإظهاره بأبهى صورة، وأكملِ هيئة، فكان في جمال التشريع في الغاية، والحسن والبهاء.
فالله تعالى مجَّد هذا البيت أولاً، فقال:﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾سورة آل عمران:96-97
تأمل هذه المقدمة بين يدي فرض الحج، لترى البهاءَ والجمال في التشريع؛ فإن الله لم يفرض الحجَّ هكذا دون ذكر مقدمةٍ تشْحَذُ الهممَ وتقوِّي العزائمَ على الامتثال، بل بدأ ذلك بذكر مزايا هذه البقعة، وما كان فيها من فضائل وأحداثٍ كونية عظيمة، فهذا المكان هو أول بقعة عُبد فيها الله جل وعلا، وهنا سرُّ الجمال في الكون.
فإن الجمال في الكون أن يكون الإنسان عبدا الله جل وعلا ، فالله جميل يحب الجمال، ومن جماله أن أمرنا بتوحيده جل وعلا؛ لأنه لا يستحق أحدٌ أن يُعبد سوى الجميل، جل في علاه، سبحانه وبحمده.
اصطفى هذه البقعة بأن جعلها الموضع الأول الذي عبد فيه -جل وعلا-: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ﴾ آل عمران الآية 96، يعني للعبادة، ﴿وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ آل عمران الآية 96، هذه البنية، هذه الكعبة التي يقصدها المسلمون، هي أول مكان عُبد الله عنده، هي بيت الله الحرام الذي عظَّمه وأجلَّه.
هذه البقعة، وهذا المكان فيه هدى للناس، وفيه آيات بينات، كما قال الله تعالى في عد خصال هذا البيت، ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ آل عمران الاية96-97
تأمَّل آخر خصلة ذكرها الله -جل وعلا- من خصال هذا البيت هو الأمن، معلوم أن الذي يخرج من بلده، يخرج من وطنه، يخرج من ماله، يخرج من أهله، هو يخرج من أمن، فيهمه أن يعرف أمن الجهة التي يقصدها، هل هي آمنة أو لا؟ فإن كانت آمنة اطمأن ونَشَط للسفر.
أما إن كانت مضطربة مخوفة، غيرَ آمنة، فإنه لن يقدم، بل سيحجم ويقف، ولذلك قال الله تعالى:﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ آل عمران الاية97، فتَشْرَئب الأنفس، وتنشط القلوب إلى قصد هذه البقعة.
بعد هذا قال -جل وعلا-: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ آل عمران الاية97
حتى في الفريضة انظر هذا الجمال، والبهاء الذي جاء في بيان فرض هذا العمل على الناس.
جاء أولاً بذكر المقصود من العمل، وهو الله جل وعلا، حيث قال:﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾. آل عمران الاية97
ثم ذكر أن هذا الحج المفروض على الناس كافة، ليس على فئة دون فئة، بل على كل الناس، وكل إنسان مطلوب منه أن يقصد هذه البقعة يتقرب فيها إلى الله -جل وعلا- بتعظيم ما عظَّم على الوجه الذي يرضاه جل في علاه، وِفق ما سنَّه خاتم النبيين، خذوا عني مناسككم.
إلا أن هذا الفرض من رحمة الله، وجمال تشريعه أن جعله منوطاً بالاستطاعة، فقال الله تعالى:﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾. آل عمران الاية97
والاستطاعة هي القدرة بالبدن، والقدرة بالمال، فمن ملك قدرةً ببدنه وبماله تُبلِّغه مكة، ليؤدي ما أمره الله تعالى به من أعمال الحج ثم يعود إلى بلده كان ذلك مستطيعاً يجب عليه السعي في عمره مرة واحدة.
إن الحج جمالُه في هيئة أهله، فإنهم متَّحِدون في ألسنتهم، فهم كلهم بلسان واحد يردِّدون " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".
إن جمالَهم في قصدهم، فهم يقصدون تعظيم الله جل وعلا، ويقصدون ما عنده ويريدون رضاه جل في علاه.
إن جمالهم في هيئتهم، فهم في لباس واحد كبيرُهم وصغيرهم، شريفهم ووضيعهم، غنيُّهم وفقيرهم، عربيُّهم وعجميُّهم، كلهم على لباس واحد وهيئة واحدة، وفي هذا من الجمال ما فيه.
من جمال هذا النسك: اتفاقُهم في الأعمال فجميع هؤلاء الوافدين إلى هذه البقعة المباركة من كل بقاع الدنيا من كل فجٍّ عميق، يتَّفقون في الأعمال، فيأتون إلى البيت الحرام، ثم إلى الصفا والمروة، ثم إلى منى، ثم إلى عرفات، ثم إلى المشعر الحرام – مزدلفة-، ثم إلى منى، هكذا في اتفاقٍ واتحادٍ في العمل يرجون ما عند الله جل وعلا، يأملون عطاءه ويأملون فضله.
الجمال ليس مقصورا على الصور، فقد يعتري صورَ الحجاج بسبب الشعث والتعب والنَّصب ما يعتريهم من حال المسافر "أشعث أغبر"، لكن الشأن في قلوب أَخْبَتَت لله، في قلوب عظَّمتِ الله، في قلوب أحبَّت ربها، في قلوب قصدته وحده لا شريك له.
لذلك يباهي ربُّ العالمين، إله الأولين والآخرين، يباهي بالحجيجِ ملائكتَه في الموقف العظيم يوم عرفة، فيقول -جل وعلا- بعد أن يدنو من الحجيج إلى السماء الدنيا يقول لملائكته :"ما أراد هؤلاء"أخرجه مسلم(1348)
الله أكبر ما أبهى ذلك الموقفَ وما أجملَه! وما أجملَ العطاءَ، إنه موقف لا يعدله موقف في الدنيا أن يباهي رب العالمين بك ملائكته، فيقول:" ما أراد هؤلاء".
إن ذلك إيذانٌ بأن من أراد شيئاً من الله في ذلك الموقف فسيبلِّغه الله إياه بفضله ومنِّه وعطائه، فالكريم الذي له ملك السموات والأرض.
الله الذي له خزائن السموات والأرض.
الله الذي إنما أَمرُه إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، يقول :" ما أراد هؤلاء"، ما أراده ناجز، ما أرادوه سيدركوه، ما أرادوه سيأخذوه.
أيُّ جمال فوق هذا الجمال؟! إنه جمال عظيم.
إن كانت الصورة قد اعتلاها ما اعتلاها من الشعث والغبرة كما جاء في الحديث «أَتَونِي شُعثاً غُبراً أُشْهِدُكم أنِّي قد غَفَرتُ لهم» أخرجه أحمد (2/224) بإسناد لا بأس به
إنه جمال الطُّهْرةِ من الخطايا والأوزار، جمال القلوب بقصدها الله جل وعلا، جمال الأبدان بالتهيئ للنسك في دخوله على أكمل الوجوه، طهارة ونظافة وطيبا، فإن ذلك كله من الجمال المشروع للحاج والبادي في أعمال الحجاج.