.... أما بعد.
فالحج عبادةٌ وسلوك، قُربى إلى الله -جل وعلا- تنعكس على الأخلاق في الظاهر والباطن، فالحج ليس عملاً بدنيًّا ينقضي بانقضاء مناسكه، وانتهاء شعائره دون أن يثمر في القلب أثراً، وفي السلوك صلاحاً واستقامة.
الحج عملٌ من الأعمال الجليلة فرض الله فيه فرائض، وشرع فيه شرائع، فالقيام به على الوجه الذي يرضى الله تعالى هو من أداء الأمانة، التي قال الله تعالى فيها:﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾سورة النساء:58
فهذا الأمر ينتظم كل واجب لزم الإنسان في حق الله -جل وعلا- أو في حق الخلق، فإن أداء ذلك من أداء الأمانة التي افترضها الله تعالى على أهل الإيمان، ولا إيمان لمن لا أمانة له، لذلك اقترنت الأمانة بالإيمان حتى وصف الإيمان بالأمانة، كما جاء ذلك في حديث حذيفة رضي الله عنه أنه قال: «الأمانة نزلت في جَذْر قلوبِ الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة» أخرجه البخاري (6497)، ومسلم(143)
وهذا يريد به الإيمان، فإن الأمانة التي نزلت في جذر قلوب الرجال، إنما هي التصديق بالنبي صلى الله وعليه وسلم، وهو يحكي ما كان عليه الأمر من أول بعثة النبي صلى الله وعليه وسلم.
فإن أول ما جاء به النبي -صلى الله وعليه وسلم- هو دعوة الناس إلى عبادة الله وحده، إلى "لا إله إلا الله"، أن يعبدوه وحده لا شريك له، وهذا أسُّ الإيمان وأصلُه، وعليه بناؤه وقَوَامه.
ولذلك قال حذيفة كما في "الصحيح"، حدثنا رسول الله صلى الله وعليه وسلم أن الأمانة – أي الإيمان – نزلت من السماء في جذر قلوب الرجال، بعد ذلك نزل القرآن مؤكِّداً لتلك الأمانة، ومحققاً لذلك الإيمان، ومفصلاً لواجباته، ومبيناً لخصاله وشعبه، وخلاله.
ولذلك قال -صلى الله وعليه وسلم-: «ونزل القرآن فقرأوا القرآن وعملوا بالسنة».[صحيح البخاري:ح7276]
أي بعد أن نزل في قلوبهم الإيمان وذلك بالتصديق بالنبي صلى الله وعليه وسلم.
فالأمانة شأنها عظيم، فالأمانة في ابتداء الأمر عمل قلبيٌّ، وهو أن يكون حفيظاً على عهد الله تعالى، وأعظم عهد بين العباد وبين الله -جل وعلا- أن يعبدوه وحده لا شريك له.
لذلك قال الله تعالى:﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾سورة الإسراء:23، فكان حقُّه أن يُعبدَ وحده لا شريك له.
هذا قضاؤه وهذا أمره، وهذا شرعه ولا إله إلا الله مفتاح الجنة، من أتى بها كان من السعداء، ومن تخلف عنها ولم يحقق معناها كان من الأشقياء.
إن الأمانة تقتضي القيام بالعهد والحجُّ شعاره التوحيد، فإن المؤمن يجأر إلى الله -جل وعلا- في أول دخوله لهذا النسك بقوله" لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".
وقفةٌ عند هذه الكلمات العظيمة التي يردِّدها المؤمنون، ويهتف بها الحجاج والقاصدون لهذه البقعة المباركة.
إنها التزام بالإقامة على طاعة الله جل وعلا، وفي هذا إقامة الأمانة، وطاعة الله في حقه، وطاعة الله في حق خلقه.
فهي الأمانة بكل معناها، فيما يتعلق بحق الله جل في علاه، وفيما يتعلق بحقوق العباد، بحقوق الخلق، فيصلح المعاش والمعاد، يصلح ما بين العبد والرب جل في علاه، وما بين العبد والخلق.
ثم بعد ذلك يُعلِن أعظمَ حق الله -جل وعلا- أنه لا يشرك معه أحدًا ولا يتوجَّه إلى سواه، "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك"، فليس في هذه التلبية، ولا في هذه الإجابة لله شريك، بل هو المنفرد بها جل وعلا.
إن الأمانة في الحج تظهر من وجوهٍ عديدةٍ، فإن الأمانة في الحج تظهر في مَكانِه، فهو في البلدُ الأمين، المحفوظ من كل ما يكرهه الناس قدرًا وشرعًا.
فإن الله تعالى جعل هذا البيت آمنا، كما قال تعالى:﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾، قال:﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ سورة آل عمران:96 – 97
والنسك؛ الحج أو العمرة تكون في هذا المكان الآمن، فيأمن الإنسان على نفسه، كما أنه يأمن غيره، وهذا من الأمانة.
من الأمانة أن المؤمن مأمور بصيانة نفسه عن أموال الناس في كل مكان وفي الحرم على وجه الخصوص.
ولذلك قال النبي -صلى الله وعليه وسلم- في بيان ما اختصَّ الله تعالى هذه البقعة من المعاني، «ولا تحِلُّ لُقطتُها إلا لمُنشِد» أخرجه البخاري(2433)، ومسلم(1353)، كما جاء ذلك في حديث ابن عباس في خصائص مكة.
قال -صلى الله وعليه وسلم- :«إن الله حرَّم مكة فلم تحلَّ لأحد قبلي، ولا تحلُّ لأحد بعدي، إنما أُحلِّت لي ساعةً من نهار لا يُختَلى خلاها، ولا يُعضَد شجرُها، ولا يُنفَّر صيدها»، ثم قال: «ولا تُلتقط لقطتُها إلا لمعرِّف»، وفي رواية :«ولا تُلتقط لقطتُها إلا لمنشد»صحيح البخاري:ح1349
أي معرِّفٌ يَنْشد ويطلُبُ صاحبَ هذه اللقطة الضائعة.
إن النبي -صلى الله وعليه وسلم- أخبر فيما أخبر ممن رآهم في النار، في خبره -صلى الله وعليه وسلم- أنه رأى النار في صلاة الكسوف في "صحيح مسلم" من حديث جابر قال: «حتى رأيتُ فيها»، أي في النار «صاحبَ المِحْجَنِ، يجرُّ قَصَبَه في النار»[صحيح مسلم:ح904/9] نعوذ بالله من الخذلان.
ومن هو صاحب المحجن؟ قال النبي -صلى الله وعليه وسلم- :«كان يَسْرِق الحاجَّ بمِحْجَنِه، فإن فطن له قال: إنما تعلَّق بمحجني، وإن غَفَل عنه ذهب به» أخرجه مسلم (904)
أي ذهب بالمال الذي التقطه بالمحجن الذي يعلق بمتاع الناس وأموالهم.
هكذا يتبين لنا عظيم الأمانة التي أكد الشارع عليها في حق الحاج، مكانًا ومالاً، بدنًا ونفسًا بل حتى الشجر كما جاء في قوله -صلى الله وعليه وسلم-: «لا يُعضد شوكها، ولا يُختلى خلاها».[سبق]
كل هذا من التأمين الذي اختص به هذا المكان المبارك.
والأمانة في مفهومها العام تشمل أداءَ كلِّ ما وجب على المؤمن، وتحمله على فعل كل ما ندبه الله تعالى إليه، وتحمله على ترك كل ما نهاه الله عنه ورسوله.
وبذلك يتحقق للمؤمن الربطُ بين الأمانة وبين الحج.
إن خروجك إلى الحج طائعاً الله -جل وعلا- هو من أداء الأمانة.
إن التزامك بأركان الحج وواجباته وشروطه، هو من أداء الأمانة.
إن انتهاءَك عما نهى الله تعالى عنه الحاجَّ من محظورات الإحرام هو من أداء الأمانة.
إن صيانتَك وتعظيمك للبقعة التي عظمها الله في البلد الحرام، هو من أداء الأمانة.
كل ذلك من أداء الأمانة التي ينبغي للمؤمن أن يحرص عليها.