الحمد لله رب العالمين، أحمده حقَّ حمده، له الحمد كلُّه أولُه وآخرُه، ظاهرُه وباطنه، لا أُحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صفيُّه وخليله، خِيرتُه من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتَّبع سنَّته واقتفى أثرَه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة من برنامجكم "الحج عبادة وسلوك".
الحج ركن من أركان الإسلام، فرضه الله تعالى على أهل الإيمان، وجعله من دعائم الإسلام، به يحقِّق المؤمن خيراً عظيماً، وفضلاً كبيراً، ويحوز أجراً جليلاً، وعطاء جزيلاً.
إنه أجلُّ العبادات في شريعة الإسلام.
إنه أصلٌ من أصوله العظام.
الحجُّ هو قصد بيتِ الله الحرام، طلباً للفوز والأجر، طلباً للعطاء والمنِّ، طلباً لحط الأوزار، وتلاشي السيئات والذنوب.
الحج تلك العبادة الجليلة، التي نادى بها إبراهيم عليه السلام، بل كفَّل الله تعالى إبراهيم بهذا البيت العظيم وجعل بناءه على يديه، وعهِد إليه هو وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركَّع السجود.
إنه من أَجلِّ العبادات التي يُظهر الناسُ فيها افتقارَهم إلى الله جل وعلا، ويعظِّمونه جل في علاه، بذكره، وإجلاله، فينادي المنادي: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".
تلك هي أولُ منازِلِ هذه العبادة الجليلة، تلك هي أول مراحل هذه العبادة المباركة، أن ينوي بقلبِه قصدَ هذه البقعة التي شرَّفها الله وطهَّرها، وجعلها أول بيت وضع للناس، فهو يأتي إلى هذه البقعة يرجو ما عند الله، لا طَلَبَ له ولا قصدَ إلا في رضوان الله جل وعلا، فتكون هذه أُولى خطوات توجُّهه إلى الله -جل وعلا- أن يقصد ذلك بقلبه، أن يقصِدَه بفؤاده، أن يقصده بنيَّته، فيكون مراده ما عند الله جل وعلا .
يكون مراده تعظيمَ ما عظمه الله جل وعلا ، يكون غرضُه إجلالَ ما أجلَّه الله -جل وعلا- وأمر بتعظيمه.
إنها تلك القلوب الطاهرة التي عُمِّرت بتعظيم الله -جل وعلا- تقصد هذا البيت، فإذا جاءت إلى المواقيت، وهي المنازل والمواضع التي أمر النبي -صلى الله وعليه وسلم- بالإحرام منها لمن يقصد مكة في حج أو عمرة.
لبَّى لله -جل وعلا- بعد تطهُّرِه وتطيُّبِه وتجرُّده، لبَّى لله -جل وعلا- ناوياً الدخول في النسك: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك".
هذا الذكر العظيم مفتاح التوحيد، إنه توحيد الله -جل وعلا- بالقصد والطلب، إنه توحيد الله تعالى في الإرادة والغرض، إنه توحيد الله تعالى في طلب الإعانة والمدد، إنه توحيدُ الله -جل وعلا- في الاستجابة له، وفي التوجُّهِ إليه، وفي ملازمة أمره جل في علاه.
"لبيك" تلك الكلمة التي هي عنوان الحج، عنوان هذا النسك المبارك، هذه العبادة الجليلة، معناها: أَلزَمُ طاعتَك، وأُقيمُ على ما تحبُّ يا ربي، "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".
ولذلك وصف هذه الكلماتِ جابرٌ رضي الله عنه في صفة حج النبي -صلى الله وعليه وسلم- فقال: "فأهلَّ النبي صلى الله وعليه وسلم بالتوحيد أخرجه مسلم (1218).".
إن الحاج يقصد هذه البقعة يتقلَّب في تنقُّلاتِه ليحقِّق العبودية لله جل وعلا ، فالحج يخرج فيه الحاج من ملاذ الدنيا، مهاجراً إلى ربه، تاركاً مالَه، وأهلَه ووطنَه، متجرداً من ثيابه، لابساً إحرامَه في أقلِّ كُلفة وأبهى صورة، حاسراً عن رأسه، متواضعاً لربه، تاركاً كلَّ الملاذ التي يمكن أن تشغَلَه عن مقصوده وغرضه.
فيترك الطِّيبَ، ويترك النساء، ويترك الملذَّات والمشتهيات، متنقلاً بين المشاعر بقلب خاضع، وعينٍ دامعة، ولسانٍ ذاكر، يرجو رحمة ربه، ويؤمِّل عطاءه، يتعرض لنفحاتِه، يمتثل أمر الله -جل وعلا- في كل حركة وسكنة، في كل دقائق أعماله وأحواله.
﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾سورة البقرة:197.
إنهم يتزوَّدون في كل أعمالهم، وفي كل أفعالهم، وفي كل تركٍ يتركونه لله جل وعلا ، يتزوَّدون من خير زاد أمرهم الله تعالى بالتزوُّد منه.
الحجُّ عبادةٌ جليلة، وعملٌ من أجلِّ الأعمال، لذلك قال الله تعالى:﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾سورة الحج:28.
فهم يذكروناسم الله -جل وعلا- في كل هذه الأيام ليلاً ونهاراً، يذكرونه قياماً وقعوداً، بُكرة وأصيلاً، يذكرونه في كلِّ أحوالهم، يبتغون عطاءَه ويتعرَّضون لِهِبَاته، يستعتبونه فيستغفرون، ويسألونه ما يأملون، كما قال -جل وعلا-: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾، فهو ليس ذكرَ اللسان، بل ذكرُ قلب، وذكر لسان، وذكر جوارح، ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، فإذا فَرَغتُم من ذلك كله، ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾.
يتعرضون بالسؤال، ويضعون بين يديه الآمال، فمنهم ﴿مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾سورة البقرة:199- 201.
هكذا ينقسم الناس في مَسائِلهم فرعاً عما كان في قلوبهم من الرغبات، فمن كان همُّه الدنيا فلا يسأل سواها، ومن همُّه الآخرة جعل طلَبَه وغايتَه في الفوز بها، وأخذِ ما يكون مما يُعينُه على نيلها وبلوغها من أمر الدنيا.
إن المؤمن يحقِّق في حجه العبودية لله -جل وعلا- بقصده وسلامة نيته كما يحققه بأفعاله، وجميع حركاته، فهو في كل حركة يتعبد لله جل وعلا، حتى فيما لا يُدرك معناه، ولا يرى وجه الحكمة فيه، كالطواف بالبيت سبعاً، وكالسعي بين الصفا والمروة على الوجه الذي شُرع، ابتداءً بالصفا، وانتهاء بالمروة.
ثم بعد ذلك رمي الجمار، لا يعقل له معنى إلا أنه طاعة لله جل وعلا.
وقد قال النبي -صلى الله وعليه وسلم- فيما رواه أصحاب "السنن" من حديث عبيد الله بن أبي زياد عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي -صلى الله وعليه وسلم- قال: «إنما جُعل الطوافُ بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورميُ الجمار، لإقامة ذكر الله» أخرجه أبو داود(1888)، والترمذي(902)، وقال الترمذي :"حسن صحيح" .
فالحج أعظمُ العبادات التي يتحقق بها اجتماعُ العبادة القلبية تعظيماً ومحبة وإجلالاً.
والعبادة العملية، سعياً وحركة وتنقلاً.
والعبادة الحالية بإحرامه، وإمساكه عما أمره الله تعالى بإمساكه.
والعبادة المالية فينفق في أوجه الخير وصنوفِ البرِّ حتى يصل إلى غرضه ومقصوده، ويؤدِّي نُسَكَه.
وبذلك تكتمل نواحي العبودية.
الله أكبر.. ما أجلَّ حالَهم.
الله أكبر.. ما أجلَّ هؤلاء ، وأعظمَ ما هم فيه من عمل.