عن أبي يزيد معن بن يزيد بن الأخنس رضي الله عنهم، قال: "كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدَّق بها، فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها فأتيته بها، فقال: والله ما إيَّاك أردتُ، فخاصمتُه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:« لك ما نويتَ يا يزيدُ، ولك ما أخذتَ يا معن» صحيح البخاري (1422).
مقدمة
هذا الحديث رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم معنُ بن يزيد بن الأخنس -رضي الله عنهم- فهو وأبوه وجدُّه، كلهم صحابيّون، وهذا قليل في أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل قد روي أنهم الثَّلاثة شهدوا بدراً، قال يزيد بن أبي حبيب: "ولا أعلم رجلاً هو وابنه وابن ابنه مسلمين شهدوا بدراً غيرهم" معرفة الصحابة لأبي نعيم (5/ 2542).
معنى الحديث:
*قول معنٍ رضي الله عنه: ((كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدَّق بها، فوضعها عند رجل في المسجد))، ولعلّ يزيد بن الأخنس والد معنٍ، كان معتاداً على هذا الفعل، أي: أن يُعطي هذا الرجل ما يريد التّصدّق به، ليقوم هذا الرجلُ بتوزيعه على المحتاجين، ممن يغشى المسجد، وممن يعرفه هذا الوكيل، فأخرج يزيد هذه المرَّة دنانير، وهي عملة ذهبية، فوضعها عند هذا الرجلّ، الّذي لم يُذكر اسمه.
*قول معنٍ رضي الله عنه: ((فجئتُ فأخذتُها فأتيتُه بها))، أي: فجاء معن رضي الله عنه إلى هذا الرجل، فأخذ منه تلك الدنانير، ولعلَّ ذلك كان على وجه الموافقة، وذاك أنَّ الرجل اعتاد أن يُعطي ذوي الحاجات، فجاءه معن، وكان ذا حاجة، فأعطاه ما أعطاه من تلك الدَّنانير، فأخذها فأتى بها إلى أبيه.
*قول معنٍ رضي الله عنه: ((فقال: واللهِ ما إيَّاك أردتُ))، أي أنّ يزيد بن الأخنس رضي الله عنهما، والد معنٍ، لما رأى هذه الدنانير، عرف أنها الصدقةُ التي وضعها عند ذلك الرجل، فبيّن لابنه معنٍ أنه لم يُرده بهذه الصدقة، وإنما أراد ذوي الحاجات من غير ولده، ولو كان ولدُه مقصوداً لأعطاه مباشرة، ولكنه يُريد أن يُبعد في الإنفاق، حتى لا تقع صدقته في يد أقاربه، وذلك لأنّ الصدقة على غير ذي قرابة أبعدُ عن جرِّ أيِّ نفع أو أي مصلحة أو سدِّ أي واجبٍ يلزم الإنسان؛ لأن القرابات لهم حقّ في النفقة.
*قول معنٍ رضي الله عنه: ((فخاصمتُه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم))، أي: أنّ معن بن يزيد، رفع الأمر إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم، من أجل أن يقضي في الخصومة بينه وبين والده.
*قول الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لك ما نويتَ يا يزيدُ، ولك ما أخذتَ يا معن))، فهذا ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم، في الخصومة بين هذا الولد وأبيه رضي الله عنهما، بأن ما أخذه معن فهو له، لأنه أخذه بحقٍّ، وما نواهُ يزيد من كون هذه الصَّدقة تصل إلى ذوي الحاجات من غير قرابته، يُكتب له ما نوى، ولو كانت صورةُ الفعل على خلاف ما نوى، وهنا موطن الشاهد في الحديث، فإن النية تغلب العمل وترجح عليه في الاعتبار، وذلك لأنّ النّيّة، إذا حال بينها وبين أن تكون واقعاً مشهوداً، أيُّ حائلٍ من الحوائل، فإنه يُكتب بها العمل المنْويُّ كاملاً، وذلك سواءٌ تعذّر قيام هذا العمل أصلاً، أو وقع العمل على خلاف ما أراده العامل.
من فوائد الحديث:
- أنَّ الرجل يجوز له أن يوكِّل غيره في أداء الصَّدقة نيابةً عنه.
-أنَّ الوكيل إذا فعل ما تقتضيه الوكالة العامَّة، فلا لوم عليه، ولذلك فإنّ يزيد لم يعاتب الرجلَ، ولم يُضمِّنه الصدقة، لإعطائه إيّاها لولده معن، وذلك فيما يبدو لأنه وكّله وكالةً مطلقة.
- جواز مخاصمة الولد لوالده، إذا ما بدا بينهما خلاف، وأنّ ذلك لا يُعدّ من العقوق، لكنَّ الإمام مالك رحمه الله عدَّ ذلك من المكروهات، ولم يعُدّه من البرّ، كما لم يعُدّه من العقوق، فجعله في منزلةٍ بين العقوق والبرِّ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ معناً على مخاصمة أبيه في حقِّه، ولم يعُدّ ذلك عقوقاً.
- أنَّ من أخذ مالاً أتاه من طريقٍ صحيح، فإنه يحلُّ له، ولو كان صاحبُ هذا المال، لا يُريد إيصاله إليه، وهذا يُخرَج به عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحلُّ مال امرئٍ مسلم إلا بطيب نفس منه» مسند أحمد (20695). فإن يزيد لم تطب نفسه بوصول الصدقة إلى ولده، ولكن ما دام أنها قد وصلت إليه بطريقٍ صحيح، فلا عبرة عندئذٍ بطيب نفس المعطي، لأن طيب النفس الابتدائي قد حصل منه بإرادته الصدقة بهذا المال.
-لا إشكال في جواز الصدقة على الأقارب، أما الزكاة، فيجوز على القول الرَّاجح من قولي أهل العلم، إعطاءُ الزّكاة للأولاد والوالدين والزوجة وكلّ من تجب له النفقة، بشرط ألَّا يكون استحقاقهم للزكاة بوصف الفقر والمسكنة، وذلك كأن يتحمل أحدهم ديوناً، لحظّ الإسلام، أو لحظِّ نفسه، في حوائجه الأصلية التي لا يكون سببها قصور النفقة، فلا بأس هنا أن يُعطى من الزكاة؛ لأن سداد الديون ليس داخلاً في النفقة.
أما إذا وجبت النفقة، فلا يجوز لمن تجب عليه -والداً كان أو زوجاً أو ابناً- أن يوفر النفقة، ويعطيهم من الزكاة؛ لأن الزكاة والنفقة، كلٌّ منهما حقٌّ مستقل في المال.