عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))، وفي روايةٍ أخرى: ((إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم)) صحيح مسلم (2564)
المقدمة:
هذا الحديث الشريف يتعلّق ببيان الأمر الّذي يكون محطّ نظر الله عز وجلّ، والأمر الذي لا يكون محط نظره سبحانه وتعالى، وقد جرى ذلك باستعمال أسلوب القصر، القائم على النّفي والإثبات، ففي هذا الحديث نفى النبي صلى الله عليه وسلم نظراً، ثمّ أثبت نظراً، ومن المعلوم أنّ مجيء أسلوب الإثبات بعد النّفي، فيه توكيد للمعنى، فوق ما فيه من تشويق، الأمر الّذي يُضفي على الموضوع المراد بيانه أهميّة ومكانة.
معنى الحديث:
* قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم))، وفي الرواية الأخرى: ((إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم)).
النظر المنفيُّ هنا هو نظر المحبة، وليس نظر الإدراك، فالله تعالى لا تخفى عليه خافية، وهو بكلِّ شيء بصير. فالمقصود أنّ محطَّ العناية والمحبة والأجر والمثوبة من الله عزّ وجلّ لعباده، ليس هو أجسادهم ولا صورهم وأشكالهم ولا أموالهم، وقد وصف الله تعالى في كتابه الحكيم، قوماً ببهاء صورتهم وجمال منطقهم، فقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} سورة المنافقون: الآية (4). ؛ ثمّ قال في ختام الآية: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}، وقد تبيّن سبب سخط الله عزّ وجلّ على هؤلاء القوم، في سياق الآية نفسها، إذ شُبِّهوا بالخُشب المسنّدة، قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}، أي: "سُنِّدت إلى حائط أو نحوه، أي: أميلت إليه، فهي غليظة طويلة قوية، لكنها غير منتفع بها في سقف ولا مشدود بها جدار" التحرير والتنوير (28/ 240). فلو أنّها كانت أثمن ما يكون من أنواع الخشب، فلا فائدة تُرجى منها ما دامت مسندةً، لم تُستعمل في بناء ولا أثاث، فكذلك هؤلاء المنافقون حالهم كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
لا بأسَ بالقوم من طُول ومن غلظ *** جسمُ البغال وأحلام العصافير
* قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ولكن ينظُر إلى قلوبِكم وأعمالكم))، والرِّواية الأخرى ((ولكن ينظر إلى قلوبكم)):
أي: إنما محطُّ العناية والمحبَّة والمثوبة من الله عزّ وجلّ، هو قلوبُ العباد، وقد ابتدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بذكر القلوب وما فيها من أعمال، ثم ثنّى بذكر ثمرة أعمال القلوب، وهي أعمال الجوارح، فإنها تابعة لعمل القلب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه في الصحيحين: ((ألا وإنَّ في الجسد مضغةً، إذا صلحت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه، ألا وهي القلب)) صحيح البخاري (52)، وصحيح مسلم (20).
وما المنظور إليه في القلب؟ هل المنظور إليه في القلب هو المضغة؟ لا ، إنَّما المنظورُ إليه في القلب ما عمَّرَ القلبَ من محبَّة الله وتعظيمه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم، وهو يشير إلى صدره الشريف: « التقوى هاهنا ، التقوى هاهنا ، التقوى ها هنا» صحيح مسلم (2564). . فليس يصل لله تعالى من عمل الجوارح شيءٌ، إنما يصله ما في قلوب العباد من تقوى ومحبة وتعظيم، لذلك يقول الله تعالى في المتقربين إليه بالذبائح: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} سورة الحج: الآية (37) إذن، فقد كان نظر المولى عزّ وجلّ إلى القلب، لأنه محل التقوى، والتقوى هي وصية الله للأولين والآخرين وهي أشرف ما عمَّر القلوب، وهي التي تصلح بها الأعمال، فإذا صلحت هذه المضغة بالتّقوى، صلح الجسد كلُّه، وذلك بما يصدر عنه من العمل الصَّالح.
من فوائد الحديث:
- أنّ جمال صورة المرء وحسنها وبهاءَها، وما يمتلكه من متاع الحياة الدنيا وزينتها، لا يغني شيئاً عند الله تعالى إذا كان القلب خاوياً من التقوى والإيمان، وإذا كان العمل متأخّراً عن طاعة الرحمن.
- أعظم وظيفةٍ يقوم بها الإنسان في الدنيا، هي أن يعتني بإصلاح قلبه وتزكية نفسه.
- صلاح القلب، يكون بالتّفكّر في عظمة الله عزّ وجلّ، والمواظبة على الصّلوات والأذكار، والأعمال الصالحة، وذلك كلّه يستهدف تطهير القلب من الشرك والبدعة والفسق والهوى، وتحليته بمحبة الله وتعظيمه والتعبد له جل وعلا بالخوف والرجاء والتوكل والإخبات والخشية، وسائر المعاني القلبية التي بها صلاح العمل.
- صلاح القلب مؤذن بصلاح العمل، والعيش الهنيء والحياة السعيدة، يقول الله تعالى:{أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} سورة الرعد: الآية (28)
- كون الله عزّ وجلّ لا ينظر إلى الأجساد والصور والأشكال والأموال، لا يعني الغضّ من أهميّة هذه الأمور، بل هي نعمٌ من الله عزّ وجل تستوجب الشكر، وإنما يعرف نعمة الله ويشكرها، من صلح قلبه بالتّقوى، وأما من كان قلبه فاسداً، فلن تجديه هذه النّعم شيئاً.
- إنّ جمال الأجساد والصور، أمرٌ مرغوب فيه، فقد روى ابن مسعودٍ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله: ((إن الله جميل يحب الجمال)) صحيح مسلم (91). لكن ينبغي للمؤمن أن يعتني أول ما يعتني بجمال قلبه، فجمال صورة المرء ومظهره محلّ نظر الناس، بينما جمال القلب وإيمانه وتقواه، محلّ نظر الله عزّ وجلّ.