عن أبي بكرة رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ)) صحيح البخاري (6875)، وصحيح مسلم (2888)
مقدّمة:
تضمّن حديثُ أبي بكرة رضي الله عنه التحذيرَ البالغ من القتال بين المسلمين، إذ رتّب أشدّ العقاب على كلا الطرفين المتواجِهَين بسيفيهما، سواءٌ كان قاتلاً أو مقتولاً، ممّا يدلّ على شدّة استنكار أن يُقاتل المسلم أخاه.
كما تضمّن الحديث بيان الأثر الكبير للنّيّة، ودورها الكبير في رفع المرء إلى مقام الفاعل الحقيقيّ للعمل، وإن لم يقم به فعلاً.
معنى الحديث:
* قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما)):
بدأ الحديث بإبراز هذه الصُّورة المستنكرة، صورة المسلمين يلتقيان ويتواجهان، كلٌّ منهما يحمل سيفه، يُريد قتل صاحبه، وذُكِر السيف لأنّه كان السِّلاحَ المعهود في زمن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ففيه إشارة إلى كل سلاح يتقاتل به النّاس، سواء كان من الأسلحة البيضاء القديمة، كالسيف وغيره، أو كان من الأسلحة الحديثة، كالمسدَّس وغيره.
وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما)) جملة شرطيّة، فما هو جوابها؟
* قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ)):
هذا هو جواب الشّرط، أي أنَّ عقوبة المسلمين، إذا التقيا بسيفيهما، يُريد كلٌّ منهما قتل الآخر، فكلاهما في النار، من قَتل ومن قُتل.
وهذا الحكم الحاسم، وهذا العقاب الأليم، يُبيِّن أنَّ اقتتال المسلمين فيما بينهم هو من كبائر الذُّنوب وعظائم الآثام، ويُقصد بالنار هنا نارُ العصاة من أهل القبلة من أهل الإسلام، فليست هي النار التي أُعِدّت للكافرين، بل هي نار العصاة من أهل الكبائر، لذا فإنّ قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: ((سِبابُ المسلم فسوقٌ، وقتاله كفرٌ)) ليس المقصودُ به الكفرَ الاعتقاديّ الذي يخرجُ به الإنسان عن الملة، وإنما هو الكفر العمليُّ.
ولكنّ هذا العقاب الأليم الواقع على كلٍّ من القاتل المقتول، إذا كانا مسلمين، يُشترط في وقوعه، أن يكون القتال بينهما قتالاً على أمرٍ من أمور الدنيا، وهو القتال في الفتنة، مثل القتال على الحكم والملك، ومثل القتال عصبيَّة وحميَّةً ومغالبةً، الّذي حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم، من الوقوع فيه، أشدّ التحذير، وحضّ على تجنُّبه، وعدم مقاربته حتى عند الاضطرار، ثمّ قال صلى الله عليه وسلم -كما جاء في حديث أبي بكرة رضي الله عنه-: ((اللهمَّ هل بلغت؟ اللهمَّ هل بلغت؟ اللهمَّ هل بلغت؟ قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيتَ إن أُكرهتُ حتى يُنطلق بي إلى أحد الصّفين، أو إحدى الفئتين، فضربني رجلٌ بسيفه، أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: «يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار)) صحيح مسلم (2887).
وأما إذا لم يكن القتال بين الطرفين قتالاً في الفتنة، أو كان قتالاً لإعلاء كلمة الله، فإنه لا ينطبق عليه هذا الحديث الشريف، ومن أبرز صور هذا القتال صورتان:
- قتال الفئة الباغية، لقول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} سورة الحجرات: الآيتان (9، 10). ففي هذه الآية أمرٌ من الله عزّ وجلّ بقتال الفئة الباغية المعتدية.
- القتال دفاعاً عن النفس، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قُتل دون ماله فهو شهيد)) صحيح البخاري (2480)، صحيح مسلم (141). فمن قاتل دفاعاً عن نفسه أو أهله أو ماله -ولو استعمل السلاحَ- مأذونٌ له في القتال في هذه الحال، لدفع الصائل المعتدي، وذلك إما وجوباً كما قال بعض أهل العلم أو إباحةً.
* قول أبي بكرة رضي الله عنه: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟!)):
وهذا القول كذلك منسوب في بعض روايات الحديث للصحابة رضي الله عنهم.
وقولهم: ((هَذَا الْقَاتِلُ)) أي: الأمر فيه واضح، لأنه قتل واعتدى، فهو يدخل النار لأمرين: لحرصه واجتهاده في قتل صاحبه، ولتحقُّق مقصوده في ذلك.
وقولهم: ((فما بال المقتول؟)) أي: فلماذا يُعاقب بالنار وهو مقتول؟
* قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ)):
وأما المقتول فيدخل النار، لكونه نوى بقلبه وعزم بفؤاده، وعمل ما باستطاعته من أجل قتل صاحبه، لكن حال بينه وبين ذلك ما قدره الله تعالى من أن يكون مقتولاً.
وهذا الحكم لا يقتصر على القاتل والمقتول في هذه الحالة فقط، بل يشمل كلّ من قصد إلى عملٍ محرم، وبذل وُسعه في سبيل الوصول إليه، بأن أخذ بأسبابه أو حقّق مقدّماته، لكنه لم ينله، فإنه يترتّب عليه كامل الإثم، لأنّه يُعدّ فاعلاً حقيقيّاً، وليس لتوجُّه نيّته فقط إلى ذلك العمل.
أمّا توجّه النّيّة فقط إلى العمل، ليكون صاحبها مأجوراً أو مأثوماً، فيدلّ عليه ما رواه أحمد وغيره من حديث أبي كبشة الأنماريّ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((مثلُ هذه الأمة مثلُ أربعة نفر:
- رجلٍ آتاه الله مالاً وعلماً، فهو يعمل به في ماله، فينفقه في حقه.
- ورجلٍ آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو كان لي مثلُ ما لهذا، عملت فيه مثلَ الذي يعمل.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهما في الأجر سواء!
- ورجلٍ آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط فيه ينفقه في غير حقه.
- ورجلٍ لم يؤته الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو كان لي مالٌ مثل هذا عملتُ فيه مثل الَّذي يعمل.
قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: فهما في الوزر سواء)) مسند أحمد (29/552) رقم (18024)، سنن ابن ماجة (4228)، صحيح التَّرغيب والتَّرهيب (16) وقال الألباني: صحيح لغيره.
فهذه أربعة نماذج ينصبها هذا الحديث، لأربعة نفرٍ، فالأولان استويا في الأجر، والآخران استويا في الوزر، فكان للنية وحدها دور كبير في إلحاق الرّجل بالمرتبة التي كان يتمنّاها ويعزم على تحقيقها.
من فوائد الحديث:
- قتال المسلم لأخيه المسلم، في حال الفتنة، من أجل الحُكم والملك، أو على سبيل العصبيَّة والحميَّة والمغالبة، من أكبر الكبائر، يكفرُ به صاحبه كفراً أصغرَ، ويُعذّب به في النَّار.
- اعتبار كلا الطَّرفين القاتل والمقتول، في النّار، فيه تّحذيرٌ بليغ من الوقوع في الفتنة، حتّى لو اضطُرَّ المرء إلى ذلك.
- القاتل والمقتول كلاهما في النار، وذلك بسبب فعل الأول، ونيّة الثّاني.
- النّار التي يدخلها المسلمان المتقاتلان، هي نار المعاصي، وليست النار التي أُعدّت للكافرين.
- القتال إذا كان لإعلاء كلمة الله تعالى، أو للإصلاح بين فئتين من المسلمين، أو دفاعاً عن النفس والأهل والمال، ودفعاً للصّائل؛ فإنّه مشروع.
- إذا اشترك شخصان في عملٍ، قام به أحدهما وعجز عنه الآخر، مع رغبته في القيام به، فهما في الأجر سواء، إن كان العمل مأجوراً، وهما في الوزر سواء، إن كان العمل مأزوراً، وفي ذلك توكيد لأهمية النيّة، وأثرها في تبليغ العاطل منزلة العامل.