قال :"فمن كانت هذه صفته فإن الله يحبه ويزكيه ،ويثني عليه ويأمر عباده من أهل السماء والأرض وسائر خلقه بمحبته والدعاء له"، وهذا من معاني ما في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة «إن الله تعالى إذا أحب عبداً نادى في السماء : يا جبريل ، إني أحب فلاناً فيحبه جبريل ثم ينادي في أهل السماء فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض» "صحيح البخاري"(3209)، ومسلم (2637)..
فالقبول في الأرض لا يقتصر فقط على بني آدم كما يشير إليه كلام المؤلف، بل حتى الحيوان يحبه، بل حتى الجماد يحبه، كما ذكر ذلك في قوله " ولا تختص محبته بالحيوانات بل تحبه الجمادات أيضاً"؟، لكن هذا لا يظهر في حق كل أحد إنما يظهر في حق من كمَّل الإيمان.
وهذا من معاني قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«إن أحد جبل يحبنا ونحبه» أخرجه البخاري (1481-1482)،ومسلم (1365)..
إن المحبة بيننا وبين أحد ليست من أجل ما يكون من المناسبة فإنه لا مناسبة بين الجماد والحيوان.
إنما المعنى الذي جعل أحد يحبنا ونحبه هو ما كان من الرابطة الإيمانية التي أشار إليها المؤلف رحمه الله ومن طاعة الله جل وعلا "{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا }"، أي حباً ، وذلك في قلوب الخلق.
وهذا من رحمة الله تعالى ومن جزاء الإحسان.
هل هذا الود والمحبة التي يجعلها الله تعالى لمن آمن وعمل صالحاً على مرتبة واحدة لكل مؤمن ولكل من عمل صالحاً، أم هي متفاوتة؟متفاوتة، ومختلفة.
ما هو معيار التفاوت والاختلاف؟ هو الوصف المذكور ، وهو الإيمان و العمل الصالح، فكلما علت درجة العبد في الإيمان وارتفعت قدمه في العمل الصالح كان نصيبه من الود في قلوب العباد أعظم، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، نسأل الله أن يستعملنا وإياكم في الصالحات.
ثم بيَّن محبة الجمادات للمؤمن واستدل بقوله تعالى "{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ}"، وفي تفسير هذه الآية ذكر جماعة من المفسرين أن السماء والأرض تبكي على المؤمن إذا مات أربعين صباحاً، ليس في ذلك حديثاً يصار إليه، لكن هو من أقوال أهل التفسير التي يستأنس بها.
ثم قال رحمه الله :" وإنما يبغض المؤمن العالم عصاة الثقلين لأن معصيتهم لله اقتضت تقديم أهواء نفوذهم على محبة الله وطاعته، فكرهوا طاعة الله وأهل طاعته ، ومن أحب الله وأحب طاعته أحب أهل طاعته، وخصوصاً من دعا إلى طاعته وأمر الناس بها.
وأيضاً فإن العلم إذا ظهر في الأرض وعمل به درت البركات ونزلت الأرزاق فيعيش أهل الأرض كلهم حتى النملة وغيرها من الحيوانات ببركته".
هذا وجه ثالث من أوجه استغفار الحيوانات للعالم.
الوجه الأول : أنهم يأمرون بالإحسان إلى المخلوقات كلها حتى الحيوان.
الثاني: رباط الطاعة والعبودية .
الثالث: أن العلماء بإظهارهم العلم وأمرهم به تحصل بذلك البركة وتدر الخيرات فتنتفع بذلك البهائم.
ثم قال :"ويستبشر أهل السماء بما يرتفع لأهل الأرض من الطاعات والأعمال الصالحات فيستغفرون لمن كان سباً لذلك.
وعكس هذا أن من كتم العلم الذي أمر الله بإظهاره لعنه الله وملائكته وأهل السماء والأرض حيث سعى في إطفاء نور الله في الأرض، الذي بسبب إخفائه تظهر المعاصي والظلم والعدوان والبغي.
قال الله تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} سورة البقرة:159..
وقد قيل:إنها نزلت في أهل الكتاب الذين كتموا ما عندهم من كتبهم من صفة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم بشيء أبداً ويتلو هذه الآية.
وفي "سنن ابن ماجه" عن البراء بن عازب، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله { يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}، قال: دواب الأرض.
وقد روي هذا موقوفاً عن البراء.
وروي عن طائفة من السلف قالوا: تلعنهم دواب الأرض ويقولوا : منعنا القطر بخطايا بني آدم.
فإن كتمان العلم النافع سبب لظهور الجهل والمعاصي، وذلك يوجب محو المطر ونزول البلاء، فيعم دواب الأرض، وتهلك بخطأ بني آدم، فتلعن الدواب من كان سبباً لذلك.
وقد ظهر بذلك أن محبة العلماء من الدين، كما قال علي رضي الله عنه لكميل بن زياد ومحبة العالم دين يدان بها.
وفي الأثر المعروف : كن عالماً أو متعلماً، أو مستمعاً، أو محباً لهم، ولا تكن الخامسة فتهلك.
قال بعض السلف عند هذا : سبحان الله، لقد جعل الله لهم مخرجاً، يعني أنه لا يخرج عن هذه الأربعة الممدوحة إلا الخامس الهالك، وهو من ليس بعالم ولا متعلم، ولا مستمع ولا محب لأهل العلم، وهو الهالك.
فإن من أبغض أهل العلم أحب هلاكهم ، ومن أحب هلاكهم فقد أحب أن يطفئ نور الله في الأرض ويظهر فيها المعاصي والفساد، فيخشى أن لا يرفع له مع ذلك عمل، كما قال سفيان الثوري وغيره من السلف.
وكان بعض خدم الخلفاء يبغض أبا الفرج ابن الجوزي، ويسعى في أذاه بجهله، فرآه بعضهم في منامه وهو يُذهب به إلى النار ، فسأل عن سبب ذلك، فقيل له : كان يبغض ابن الجوزي، قال ابن الجوزي لما زاد تعصبه وأذاه لجأت إلى الله في كشف ستره فقصمه الله تعالى قريباً.
ولما قتل الحجاج سعيد بن جبير كان الناس كلهم محتاجين إلى علمه ، فمنعم الانتفاع بعلمه، فرؤي في المنام أن الحجاج قُتل بكل قتيل قتله في الدنيا قِتله، وقتل بسعيد بن جبير سبعين قِتلة ، ولهذا المعنى كان أشد الناس عذاباً من قتل نبياً لأنه سعى في الأرض بالفساد، ومن قتل عالماً فقد قتل خليفة نبي، فهو ساع في الأرض بالفساد أيضاً.
ولهذا قرن الله بين قتل الأنبياء وقتل العلماء الآمرين بالمعروف في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} سورة آل عمران:21..
وقال عكرمة وغيره من السلف في قوله تعالى:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} سورة المائدة: 32.، ومن قتل نبياً أو إمام عدل قال: كأنما قتل الناس جميعاً، ومن شد على عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعاً".
هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله كالجواب على إشكال يمكن أن يورد، وهو " إذا كان العالم يحبه أهل السموات وأهل الأرض، ويستغفر له من في السموات ومن في الأرض، فما الإجابة على هذه العداوات التي تتوجه لأهل العلم وتنالهم".
فقال رحمه الله :" وإنما يبغض المؤمن العالم عصاة الثقلين"، هؤلاء هم الذين يبغضون أهل العلم ويسعون في الإضرار بهم وإلحاق الأذى، لأن معصية الله اقتضت تقديم أهواء نفوسهم على محبة الله وطاعته.
يقول :" فكرهوا طاعة الله وأهل طاعته ، ومن أحب الله وأحب طاعته أحب أهل طاعته، وخصوصاً من دعا إلى طاعته وأمر الناس بها"، وهم العلماء.
ثم قال:" وأيضاً فإن العلم إذا ظهر في الأرض"، تقدم التنبيه إليه، قال رحمه الله في بيان عكس حال العلماء الذين يبينون الحق، من يكتم العلم ممن أتاه الله تعالى علماً.
فقوله تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}، هذا فيه التحذير الشديد لكل من تعلم علماً أن يكتم ذلك العلم الذي تعلمه.
هذا الوعد ، هل هو لكل علم؟ الجواب . لا.
هل هو في كتم العلم الذي يترتب على إشاعته مفسدة؟ الجواب. لا.
إنما هو في العلم الذي يجب بيانه وتوضيحه.
فمن يستدل بهذا في حق أهل العلم الذين يرون السكوت عما تكون المصلحة في السكوت عنه، يخطئ في الاستدلال.
كما أن الذي يستدل بهذه الآية في بيان ما يترتب على بيانه مفسدة ومضرة أكبر من الكتمان يخطئ في الاستدلال.
ولذلك أبو هريرة رضي الله عنه الذي استدل بهذه الآية على بيانه وتوضيحه حيث قال :"لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم شيئاً أبداً، وقرأ قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}، كان رضي الله عنه قد قال :" حفظت من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعائين أما أحدهما فقد بثثته- أي علمته ونشرته- وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا" يعني لقطع حلقومه وقتل رضي الله عنه.
فآثر السكوت عنه وكتمان بيانه لما يترتب على بيانه من المفسدة والمضرة سواء في حقه أو في حق الناس.
وذلك أن العلم الذي كتمه رضي الله عنه هو العلم المتعلق ببيان أسماء من كانوا في الفتنة مما يترتب على بيان أسمائهم مضرة ومفسدة .
فالمقصود ينبغي أن نفقه في الاستدلال، لأن بعض من ليس له نصيب من العلم يأتي إلى عالم أو صاحب علم فيقول:"لما لا تتكلم ، لما لا تفعل"، ثم يأتي بهذه الآية التي يدخل بها العلماء في الملعونين { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}، وهو بهذا يزكي نفسه ويتهم غيره، كأنه هو الذي بيَّن الشريعة ووضحها وأما أهل العلم الذين شابت رؤوسهم في تعليم الناس ونفعهم ونعلم منهم الصدق في البيان والتوضيح قد خانوا الله تعالى واستحقوا لعن الله ولعنة اللاعنين.
لا شك أن هذا من التطفيف ، ومن تنزيل الكلام في غير موضعه.
فينبغي لنا أن نفقه كلام الله تعالى، وأن لا يكون الإنسان واقفاً على الآيات دون النظر إلى معانيها، فإن فقه كلام الله تعالى هو الذي يسلم به الإنسان من مثل هذه الضلالات.
ثم بيَّن المؤلف رحمه الله ما كان عليه السلف رحمهم الله من الحث على العلم ومحبة العلماء.
وهنا - يا إخواني - ينبغي أن نفهم ما قاله " علي رضي الله عنه لكميل بن زياد ومحبة العالم دين يدان بها"، محبة الصالحين مما يتقرب بها إلى الله تعالى.
فأوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله.
وأولى أولئك وأحقهم بالمحبة هم أهل العلم الذين كمَّلوا إيمانهم بمعرفة الله تعالى وبمعرفة أمره.
وكمَّلوا عملهم بالاستقامة على شرع الله تعالى جهدهم وطاقتهم .
ولذلك كانوا في المرتبة العليا والمنزلة الكبرى في المحبة .
قال بعد ذلك في الأثر :" كن عالماً أو متعلماً، أو مستمعاً، أو محباً لهم، ولا تكن الخامسة"، وهو المعرض الخارج عن هذه الأحوال.
" عالماً أو متعلماً، أو مستمعاً، أو محباً"، هذه أحوال الناس في الدين.
والدين علم.
" إن هذا العلم دين فلينظر أحدكم عمن يأخذ دينه.
فينبغي لنا أن نكون واحدة من هذه المنازل لنفوز بالفضل.
بقية الكلام ما ذكره من حال ابن الجوزي رحمه الله وهو تصديق لهذا المعنى، وأن من عادى أولياء الله تعالى فحقيق أن تنزل به العقوبة .
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم القلوب الذاكرة ، الشاكرة، العاملة بطاعته.
ثم قال رحمه الله :" وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب».
وقد روي هذا المعنى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضاً، من حديث معاذ وأبي الدرداء، ولكن إسنادهما منقطع .
وفي هذا المثل تشبيه للعالم بالقمر ليلة البدر وهو نهاية كماله وتمام نوره.
وتشبيه العابد بالكواكب وأن بين العالم و العابد من التفاوت في الفضل ما بين القمر ليلة البدر والكواكب.
والسر في ذلك والله أعلم أن الكوكب ضوءه لا يعدو نفسه، أما القمر ليلة البدر فإن نوره يشرق على أهل الأرض جميعاً فيعمهم نوره فيستضيئون بنوره ويهتدون به في مسيرهم.
وإنما قال على سائر الكواكب، ولم يقل على سائر النجوم، لأن الكواكب هي التي لا تسير ولا يهتدى بها، فهي بمنزلة العابد الذي نفعه مقصور على نفسه .
وأما النجوم فهي التي يهتدى بها كما قال تعالى { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} سورة النحل:16..
وقال: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} سورة الأنعام:97..
فكذلك مثَّل العلماء من أمته بالنجوم في الحديث الذي سبق ذكره.
وكذلك روي عنه أنه قال : « أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم».
وقد قيل: إن القمر إنما يستفيد نوره من ضوء الشمس كما أن العالم نوره مقتبس من نور الرسالة، فلذلك شُبِّه بالقمر ولم يُشبَّه بالشمس.
ولما كان الرسول سراجاً منيراً يشرق نوره على الأرض، كان العلماء ورثته وخلفاؤه مشبهون بالقمر عند تمام نوره وإضاءته .
وفي "الصحيح" عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر لأهل الأرض، ثم الذين يلونهم على أضوأ كوكب دي في السماء».
ولا يبعد والله أعلم أن العلماء الربانيين من الزمرة الأولى كما كانوا في الدنيا بمنزلة القمر ليلة البدر لأهل الأرض، وقد يشاركهم في ذلك المبرَّزون من العبَّاد ، ولاسيما من انتفع الناس باستماع أخبارهم، ورقت القلوب عند ذكرهم، وحنَّت إلى اقتفاء آثارهم.
وأما الزمرة الثانية فهم عموم العُبَّاد.
لما مات الأوزاعي رحمه الله تعالى وكان إمام أهل الشام مع كثرة عبادته وكثرة خشيته وخوفه من الله تعالى رئي في المنام فقال : ما رأيت هناك أعظم من درجة العلم ثم درجة المحزونين : يعني أهل الخوف من الله والخشية والحزن , وقد دل هذا الحديث على تفضيل العلم على العبادة تفضيلا بينا .
يقول المصنف رحمه الله : في شرح قوله صلى الله عليه وسلم : وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة القدر على سائر الكواكب , قد روي هذا المعنى أي : تفضيل العالم على العابد من حديث معاذ وأبي الدرداء , ولكن إسنادهما منقطع , فإنهما يشهدان لهذا الحديث .. حديث أبي الدرداء الذي تكلمنا عن إسناده سابقا .
يقول المؤلف رحمه الله : في هذا المثل تشبيه للعالم بالقمر ليلة البدر , وتشبيهه بالبدر ليلة القمر لأنه الكمال في حاله , الكمال في حاله هو ليلة البدر لأنه تمام نوره , تشبيه للعابد بالكواكب .
ثم بين المؤلف رحمه الله السر في هذا التشبيه , لماذا مثل العابد بالكوكب والعالم بالقمر ليلة القدر , وقال في ذلك : أن القمر ليلة البدر يشرق نوره على أهل الأرض جميعا ويعمهم نوره فيستضيئون بنوره , بخلاف الكواكب فإن نورها قاصر عليها , واستشهد بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مثل أصحابه بالنجوم فقال : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم , وهذا الحديث ضعيف باتفاق أهل العلم رحمهم الله , وإنما ساقه المؤلف لاتفاقه في المعنى وليس استشهادا ولا استدلالا به , ثم بين العلة في تشبيه العالم بليلة البدر ولم يشبه بالقمر مع أن القمر أشد إنارة وأعظم ضياء , لكن ذلك لأن العالم يستفيد نوره من نور الشريعة التي هي مصدر لهذا النور , فليس ذاتيا , إنما نوره بمنة الله تعالى عليه بالعلم الذي يستفيد من كتاب الله تعالى وسنة رسوله .
يقول رحمه الله تعالى :ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم سراجا منيرا يشرق نوره على الأرض كان العلماء ورثته وخلفاءه مشبهين بالقمر عند تمام نوره وإضاءته , وإنما قصر نورهم عن نوره لأن نوره قد تم وكمل ونورهم مستفاد من نوره صلى الله وعلى آله وسلم , فهذا النور ليس مقصورا على أهل العلم بل لأهل العبادة والطاعة لا سيما من بلغوا منزلة عليا من العبادة لهم من هذا النور نصيب , ولذلك قال : ولا يبعد أن العلماء الربانيين من الزمرة الأولى في الحديث : إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر لأهل الأرض ثم الذين يلونهم على أضوء كوكب دري في السماء , يقول : كما كانوا في الدنيا بمنزلة القمر ليلة البدر لأهل الأرض فهم في الآخرة كذلك , هذه المنزلة هل هي خالصة للعلماء ؟ قال : وقد يشركهم في ذلك المبرّزون من العباد , وخصهم بمن اشتهر ت عبادتهم فكانوا قدوة للناس في التعبد والتنسك , فهؤلاء لهم نصيب من الإمامة في الدين بقدر ما حصل من الانتفاع بطاعتهم وعبادتهم , قال : فأما الزمر الثانية فهم عموم العباد الذين قصرت مراتبهم عن أن يكون نفعهم متعديا بل اقتصر نورهم عليهم , ثم ذكر ما نقله عن الأوزاعي رحمه الله .
بعد هذا يأتي المؤلف رحمه الله بنصوص مستفيضة كثيرة منها الصحيح ومنها الضعيف الذي ينجبر بغيره وينضم للشواهد الأخرى في بيان تفضيل العلم عن العبادة .