المقدم:دكتور خالد حفظكم الله مشاهدينا الكرام تحدثتم في الحلقة الماضية عن لمحات حول معاني الصلاة على النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولعلنا في هذه الحلقة يا شيخ نتكلم عن الدعاء بعد التحيات، هذا الدعاء هل هناك دعاء محدد يا شيخ يقوله الإنسان بعد التحيات؟ ما هو هذا الدعاء؟ تساؤلات أيضًا هل هذا الدعاء بعد التحيات من مواطن استجابة الدعاء أيضًا، وإذا كان هناك أمور أخرى يا شيخ حوله حفظكم الله.
الشيخ:الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على البشير النذير، والسراج المنير نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
منزلة الدعاء في الدين وفي العبودية والسير إلى الله ـ تعالى ـ منزلة عظمى كبرى يبينها نصان وإن كانت النصوص في هذا كثيرة:
- الأول من القرآن قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾[غافر:60]، أمر الله ـ تعالى ـ عباده بأن يدعوه ثم قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[غافر:60]فجعل الدعاء عبادة، وهذا فيه الوعيد الشديد على أولئك الذين يظهرون الغنى عن الله ـ تعالى ـ وهذا في الحقيقة كذب وزور؛ لأن ما من مخلوق إلا وهو إلى الله فقير ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾[فاطر:15].
- أما النص الثاني فما في الترمذي وغيره من حديث النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «الدعاءُ هو العِبادةُ»سنن الترمذي (2969)، وسنن أبي داود، ولهذا ينبغي أن يحتفي المؤمن بالدعاء وبقدر احتفاء المؤمن بالدعاء بقدر ما يدرك من خير الدنيا والآخرة، فالدعاء هو مفتاح العبودية الذي يدرك به الإنسان خير الدنيا وخير الآخرة، والمقصود من هذه الصلاة في قيامها وقعودها وركوعها وسجودها وسائر أحوالها هو تحقيق الدعاء، هو الإخلاص لله ـ جل وعلا ـ في المسألة بأكمل صورها، فالصلاة في المعاجم اللغوية وفي دواوين اللغة تُعرف بالدعاء، وهذا هو الأصل في الاستعمال اللغوي في معنى هذه الكلمة: الصلاة، صلى أي دعا، وسميت هذه العبادة دعاء؛ لأنها تجمع بين نوعي العبادة، بين نوعي الدعاء دعاء العبادة الذي يتمثل في امتثال الأمر قيامًا وقعودًا، وركوعًا وسجودًا.
وأيضًا في دعاء المسألة الحاجة والطلب وإنزال الفاقة والحاجة بالله جل وعلا، إذا كانت الصلاة دعاء فهي من أولها إلى آخرها دعاء لكن تتنوع صور الدعاء، فمنها ما هو دعاء تعبدي، ومنها ما هو دعاء مسألة وحاجة. والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر بسؤال الحاجات في هذه الصلاة، ولهذا جاء في الصحيح بل في الصحيحين من حديث الأعمش عن شقيق عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما ذكر التحيات وعلمهم كيف يقولون، قال: «ثُمَّ ليَتَخيَّرْ أحدُكم مِن الدُّعاءِ أعجبَه إليه، فليَدْعُ به ربَّه عزَّ وجلَّ»صحيح البخاري (835)، ليتخير من الدعاء.
إذًا هو مأمور بأن ينتقي ليس فقط أن يدعو بل أن ينتقي من الدعاء أعجبه إليه، وأعجبه هنا تحمل معنيين:
- المعنى الأول أعجبه أي الذي يحقق به صلاح دنياه وآخرته.
- والمعنى الثاني أعجبه إليه الذي يلبي حاجته فالناس يختلفون في حوائجهم، ويختلفون في مسائلهم ومطالبهم، فلذلك ليتخير من الدعاء أفضل ما يحقق له المطلوب، وهنا معناه أنه ينبغي للإنسان أن يدعو بأفضل ما يعلم من الدعاء، وليس الشأن أن يقول أي دعاء، ولما كان الدعاء كبيرًا في الصلاة وله ميزة وخصوصية عن سائر مواطن الدعاء قال الصديق أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: «عَلِّمْنِي دُعَاءً أدْعُو به في صَلَاتِي»، وهذا يبين أن الدعاء في الصلاة له ميزة حتى أن صديق الأمة أبا بكر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن نوع من الدعاء يدعو به في صلاته، فقال: «قالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، ولَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنْتَ، فَاغْفِرْ لي مَغْفِرَةً مِن عِندِكَ، وارْحَمْنِي، إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ»صحيح البخاري (834)، وصحيح مسلم (2705)، هذا الدعاء الذي علمه رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أبا بكر وهو في الصحيح وهو دعاء: اللهم أني ظلمت نفسي، علمه ليقوله في صلاته.
أيضًا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر المصلي أن يستعيذ في صلاته من أربع كما في الصحيح من حديث أبي هريرة: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن عَذَابِ القَبْرِ، وَعَذَابِ النَّارِ، وَفِتْنَةِ المَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَشَرِّ المَسِيحِ الدَّجَّالِ«صحيح البخاري (832)، وصحيح مسلم (588)، هذه الأربع هي أعظم المخاوف التي يخافها الإنسان في طباقه، وفي مراحل التي سيستقبلها في هذه الدنيا وفي الآخرة: فتنة المحيا والممات، فتنة المسيح الدجال، عذاب القبر، عذاب جهنم، فإذا وقي هذه الأخطار الكبرى الأربعة فقد وقي كل شر وكل ضرر.
ولهذا لم يكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يترك الاستعاذة بالله ـ تعالى ـ من هذه الأربع في صلواته سواء أن كانت النافلة أو المفروضة، فعائشة ـ رضي الله عنها ـ كما في الصحيحين تخبر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يستعيذ في صلاته يدعو في صلاته فيقول: «أنَّهُ كانَ يَتَعَوَّذُ مِن عَذَابِ القَبْرِ، وَعَذَابِ جَهَنَّمَ، وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ»صحيح مسلم (588)، هذه صور من الأدعية الواردة عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وجاء عنه في السنن والمسند من حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا مُعَاذُ قُلْتُ : لَبَّيْكَ ، قال: إنِّي أُحِبُّكَ قُلْتُ: و أنا و اللهِ، قال: أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِماتٍ تقولُها في دُبُرِ كلِّ صَلاتِكَ قُلْتُ: نَعَمْ ، قال: قُلْ: اللهمَّ أَعِنِّي على ذكرِكَ وشُكْرِكَ، و حُسْنِ عِبادَتِكَ»سنن أبي داود (1522)، وسنن الترمذي (3407)والدبر هو آخر الصلاة قبل السلام منها، ويصح على ما بعدها لكن الأولى أن يكون قبل أن يسلم.
هذه الأدعية التي جاءت وهذه منزلة الدعاء في هذا الموطن، ويؤكد عظيم المنزلة ما جاء في السنن والمسند أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سُئل: أي الدعاء أعظم أو أجوب يعني أسمع، ويحصل به إجابة الدعاء قال: «أيُّ اللَّيلِ خيرُ الدُّعاءِ فقال رسولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ـ جوفُ اللَّيلِ الآخِرُ ثمَّ قال صَلِّ ما شِئْتَ حتَّى تُصلِّيَ صلاةَ الصُّبحِ»سنن أبي داود (1277)، وفي أدبار الصلوات المكتوبات، وأدبارها هو آخرها آخر الصلوات المكتوبات، فينبغي أن يحتفي المؤمن بالدعاء في هذه المواطن، وأن يحرص عليها: دعاءه في سجوده، دعاءه في آخر الصلاة هو من مواطن التي يتحرى فيها المؤمن إجابة الدعاء، فكلما وضعت جبهتك لله ـ تعالى ـ وكلما صليت قبل أن تفرغ من صلاتك اجتهد في طرح مسائلك حال الله تعالى، ماذا يسأل؟ هل يسأل فقط ما جاء في القرآن من الأدعية؟
من العلماء من يقول: لا يسأل إلا بما جاء في القرآن وهذا القول ذهب إليه أبو حنيفة رحمة الله وجماعة من أهل العلم لكنه أضيق الأقوال في الدعاء في آخر الصلاة، وأوسع منه أنه يدعو بما شاء من خير الدنيا والآخرة، وهذا أوسع الأدعية، هل الضيق هو فقط أنك تدعو بالأدعية القرآنية، والواسع هو أن تدعو بكل دعاء صحيح لا اعتداء فيه في أمر دينك وأمر دنياك، يعني حتى يجوز للمؤمن أن يدعو بمصالح الدنيا فيقول: اللهم أرزقني بيتًا واسعًا، وارزقني زوجة حسناء، وارزقني ولدًا...
المقدم:في المفروضة وفي النافلة؟
الشيخ:في الفرض وفي النفل فيدعو بما شاء، من العلماء من يقول: ليس له أن يدعو بملاذ الدنيا، يدعو بما شاء من صالح الآخرة ومن صالح الدنيا؛ لكن ليس له أن يدعو بملاذ الدنيا، وهذا مذهب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ وأما الجمهور فهم يرون أنه يدعو بكل دعاء صحيح في أمر دينه وأمر دنياه، ولو كان هذا من ملاذ الدنيا لا حرج في ذلك، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أبان السعة في ذلك حيث قال: «ثُمَّ ليَتَخيَّرْ أحدُكم مِن الدُّعاءِ أعجبَه إليه»صحيح البخاري (835)، ولم يقل: لا يدعو بأمر الدنيا، فما الدليل على منع الإنسان من أن يدعو بأمر دينه ودنياه؟ بأمر ما يصلح المعاش وما يصلح المعاد.
لهذا أقول: يا أصحاب المسائل ويا صاحبات الحاجات يعني هذه فرصة ومنحة أن يتقدم العبد بين يدي ربه الذي له ما في السموات وما في الأرض، فقبل أن تقول: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، احرص على أن تضع كل مسألة بين يدي ربك جل في علاه، فإنه حري أن يقضيها، وجدير بأن يجيبها وهو الذي إذا أراد شيئًا إنما أمره أن يقول له: كن فيكون، فتمت قدرته وتم غناه بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء سبحانه وبحمده، وهذا يقتضي أنه إذا سألنا أن نسأل ونحن قد امتلأت قلوبنا ثقة بعطائه، وإنالته، وإحسانه ـ جل في علاه ـ وأنه إذا منعنا شيئًا لا يمنعنا بخلًا، كما أنه لا يمنعنا ـ جل في علاه ـ عجزًا فهي القوي الغني الحميد جل في علاه إنما يمنعنا لمصلحتنا.
كما لو أن طفلك طلب منك شيئًا تعرف أنه يضره، وتقدر أن تعطيه إياه لا تمنعه بخلًا إنما تمنعه للحفاظ عليه، ولمصلحته فكذا إذا دعونا الله ولم نجب فلنعلم يقينًا أنما اختاره الله لنا خير مما اخترناه لأنفسنا. ولهذا ينبغي للمؤمن أن يدخل هذه الصلاة وقد تعلق قلبه بالله ـ جل وعلا ـ وانظر كيف الدعاء أتى في آخر المطاف تقدمه قراءة، وتكبير، وتسبيح، وتحميد، وثناء، وتمجيد، وصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم بعد هذا كله تأتي المسألة وقد قدم لها ما يوجب قبولها.
ولهذا في حديث الفضال أبي عبيد أنه: «سمعَ رسولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ ـ رجُلًا يدعو في صَلاتهِ، ولم يحمَدِ اللهَ، ولم يُصلِّ علَى النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ، فقالَ: عجِلَ هذا، ثمَّ دعاهُ، فقالَ: إذا صلَّى أحدُكم فليبدَأْ بتحميدِ ربِّهِ والثَّناءِ علَيهِ ، ثمَّ يصلِّي علَى النَّبيِّ ـ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ ـ ثمَّ يدعو بعدُ بما شاءَ»سنن أبي داود (1481)، وسنن الترمذي (3477)، عجل هذا يعني في مسألته وطلبه.
وانصح إخواني بالحرص على الدعاء النبوي فهو أجمع ما يكون من الدعاء، والنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموطن كان يدعو كثيرًا بالاستعاذة بالله جل وعلا من المغرم والمأثم، والمغرم والمأثم هما أسباب وقوع الإنسان في كل سوء وشر في أمر دينه وأمر دنياه، ولذلك «أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ يَدْعُو في الصَّلَاةِ ويقولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ المَأْثَمِ والمَغْرَمِ، فَقالَ له قَائِلٌ: ما أكْثَرَ ما تَسْتَعِيذُ يا رَسولَ اللَّهِ مِنَ المَغْرَمِ؟ قالَ: إنَّ الرَّجُلَ إذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، ووَعَدَ فأخْلَفَ»صحيح البخاري (832)، وصحيح مسلم (589).
المقصود أنه هي فرصة أسأل الله ـ تعالى ـ أن يعيننا وإياكم على اهتبالها واغتنامها فيما يقرب إلى الله جل في علاه.
المقدم:آمين أحسن الله إليكم يا شيخ وبارك فيك.