علاقة النصر بالصيام
الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فالصوم من العبادات التي ينتصر فيها الإنسان، على نفسه وعلى شهواته وعلى مألوفاته، وبالتالي فهذا النصر المحدود وهو الذي يكون في ساحة الإنسان نفسه، في جواذبه إلى الخير وجواذبه إلى الشر، انتصاره الذي يحققه في مجال سلوكه وعمله وطاعته لله عز وجل وتخلُّصه من عوائق السُّمُوِّ والرُّقيِّ والارتفاع تنعكس على المجموع، وبالتالي يتحقق من هذا النصر الفرديِّ نصرٌ كلِّيٌّ، نصر جمعيٌّ، وذلك بنصر الأمة في مواطن تحتاج فيها النصر، فالله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾[محمد:7]، وهذه الآية يكررها الخطباء ويرددها المذكِّرون بضرورة تحقيق نصر الله للفوز بوعده، وأنه ينصر أولياءه، لكن قد يغفل كثيرون عن أن هذا النصر الذي ذكره الله عز وجل في قوله: ﴿إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾ ليس نتاجَ فجأة، وإنما هو نتاجُ خطوات، ونتاج عمل يقوم فيه الفرد والجماعة لتحقيق نصر الله عز وجل، فكلُّ من أطاع الله فقد نصر الله، وكلُّ من التزم شرع الله فقد نصر الله، وكلُّ من توقَّى السيِّئاتِ، فقد نصر الله، وكلُّ من قال: أستغفر الله، وأتوب إليه، عند الخطأ والإساءة فقد نصر الله.
إذًا نصر الله مفهوم أوسع من أن يكون فقط أن يحمل سلاحًا ويذهب إلى ساحات الوغى وملتقيات القتال، لا، نصر الله يكون للصَّغير والكبير، والذَّكر والأنثى، والحر والعبد، والفرد والجماعة، وذلك بتحقيق شرع الله عزَّ وجلَّ على المستوى الفردي وعلى المستوي الجماعيِّ، وعلى مستوى الأمة، وعلى مستوى الجماعة، وبالتَّالي إذا حقَّقنا نصرَ الله عزَّ وجلَّ فسنفوز بنصره.
والصوم هو من أبرز العبادات التي يتحقق بها النصر، ولذلك وافق أن يكون هذا الشهرُ محلَّ انتصاراتٍ كبرى، عبر تاريخ الإسلام، ففي حياة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أكبرُ انتصارين حقَّقهما، حوَّلا مجرى مسيرة الإسلام، وقبول الناس لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم كانا في رمضان:
النصر الأول في غزوة بدر الكبرى، وذلك في السنة الثانية من الهجرة، فإنَّ الله عز وجل نصر رسوله على عدوه، والعجيب أن هذا النصر اقترن بفرضية الصوم، فالصوم فرض في السنة الثانية من الهجرة، فصام نبيُّنا صلى الله عليه وسلم تسعة رمضانات، وكان ابتداؤه في السنة الثانية من الهجرة، وهذا نصرٌ عظيم، وتحوَّل به مجرى معادلة المعركة بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش، هذا أول نصر.
النصر الثاني: النصر الكبير الذي أشرقت به الدنيا بعد ظلمتها، حيث مَنَّ الله على رسوله بتطهير البيت الحرام - مكة - من الأصنام والأرجاس والأوثان، ففتح الله لنبيه صلى الله عليه وسلم مكة في شهر رمضان من العام الثامن، حيث جاء صلى الله عليه وسلم إليها في رمضان ففتحت له، وكان يقول لأصحابه لما قربوا إلى مكة: «إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، فَأَفْطِرُوا»صحيح مسلم (1120)، وكان ما كان من النصر.
إذًا: النصر هو نتاج تربية، والله عز وجل يختار من أوقاته ما يشاء، ولا يعني أنَّ النصر لا يقع في غير هذا الزمان، لا، فالنصر يكون في كلِّ وقت، لكن هذا الوقت - وهو وقت هذه العبادة الجليلة - اصطفاه الله بخصوصيَّاتٍ في حوادثَ كبرى، تتعلق بفعل النَّاس، وتتعلق بغير فعلهم، فإنزالُ القرآن في رمضانَ هذا من أعظم النصر الذي خُصَّ به هذا الشَّهر؛ فإنَّ إنزال هذا النُّور على النبي صلى الله عليه وسلم كان في شهر رمضانَ في ليلة القدر: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾[القدر:1-2] إلى آخر ما ذكر الله عزَّ وجلَّ، وليلة القدر هي في العشر الأخير من رمضان.
إذًا كل هذه المعاني، أولاً: تخصيصُ ربِّ العالمين. ثانيًا: الأعمال والشَّرائع التي شرعها الله تعالى في هذا الشهر، وأثر ذلك على النَّفس عندما تزكو وتسمو وتقترب من الحقِّ وتعلو عن السَّفاسف: فإنَّ كل ذلك ينتج نصرًا، وليس هذا مقصورًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، بل معارك كان لها حضور واسع في تاريخ الإسلام، كانت في هذا الشهر المبارك وإلى يومنا المعاصر.
نحن نقول: رمضان شهر النصر، حتى ولو لم تقع معارك؛ لأنَّه شهر النصر على النفس، شهر النصر على الشهوة، شهر النصر على الملذَّات والانحرافات، شهر النصر من كل وجه.
وأنا أقول: ينبغي أن نستثمر هذا النصر، وأن نحمد الله تعالى عليه، وأن نفرح به، وأن نبني عليه لأنه خطوة في الطريق، فمن الخطأ أن يرجع الإنسان عن خطوة تقدم فيها إلى خير.
أسأل الله عز وجل أن يتمم لأمتنا النصر بالتئام شملها واجتماع كلمتها وظهور رسالتها، والله ولي ذلك وهو القادر عليه، ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾[البقرة:257]، فنسأل الله أن ينير قلوبنا والمسلمين، وأن يرينا في أمتنا ما تقر به أعيننا.