الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أحمده سبحانه لا أحصي ثناءً عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، رب العالمين، يحكم ما يشاء، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، رضينا به ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام، إن الله سبحانه وتعالى بعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، على حين انقطاع من النذر، بعثه وقد ملأ العالم الظلمات، وتشتتت فيه الأهواء، وتفرقت فيه الأديان، حتى إن الله جلّ وعلا مقت أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا نفرًا قليلًا من أتباع الرسل، قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ المائدة: 19..
روى الإمام مسلم في صحيحه رقم (2865). فيما رواه عِيَاض بن حِمَار رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم ذات يوم في خطبته: «إِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ».
بعثه الله سبحانه وتعالى رحمة للعالمين، ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ المائدة: 16.، بعثه بنور أشرقت له الظلمات وملأ الدنيا بالخيرات، لم يترك طريقًا يدل إلى الله ويقرب إليه إلا بينه، ولا طريقًا يبعد عن الآخرة ويصد عن سبيل الله إلا حذر منه، صلى الله عليه وسلم. وقد وعده الله سبحانه وتعالى بالظهور والعلو والسناء والرفعة وأنه ظاهر على كل من عانده وخاصمه؛ كما قال جل وعلا: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ التوبة: 33 ليظهره ويعليه على كل دين وملة، ولو كره المشركون. فالحمد لله أن جعلنا من أهل الإسلام، ونسأله سبحانه أن يثبتنا عليه إلى الممات، وأن يجمعنا برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في جنات عدن.
أيها الإخوة الكرام.. دين الإسلام الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم ظاهر عَلِيٌّ، لا يرتاب في ذلك إلا منافق، قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ الأحزاب: 12.، أما أهل الإيمان الذين صدقوا وعد الله وخبره فهم يوقنون أن الله سبحانه وتعالى قد أعلى أمر هذا الدين وأظهره منذ أن بلّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته الأقربين ودعاهم إلى دين رب العالمين، فما زال هذا الدين في علو وارتفاع، وغيره في سفول وانحسار، والله لا يخلف الميعاد، ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾ الزمر: 20 ، حتى في أيام الضعف، وفي مراحل النكبات، وفي أيام الأزمات والانتكاسات، كان هذا الدين عاليًا شامخًا يخرج من تلك الأزمات ومن تلك النكبات قد اكتسب جمعًا كثيرًا من الناس، فإن الله سبحانه وتعالى أعلى أمر هذا الدين.
فالحق يعلو ولا يُعلى عليه، فمن ناوأه كانت جنود الله منتصرة، جنود الله التي لا حصر لها، ولا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، يثبت بها أهل الإيمان، ويعلي بها شأن أهل الإسلام، ويرفع الله بها دينهم وعملهم بقدر ما يكون معهم من الصدق.
أيها الإخوة.. إن الله سبحانه وتعالى قد أخبر في كتابه مؤكدًا في مواضع عديدة أنه لا يخلف الميعاد، فإن إخلاف الوعد ليس من شأن الرب، قال الله جل وعلا: ﴿فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾ البقرة: 80. وقال تعالى: ﴿وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ الحج: 47.، فالله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، كما قال سبحانه وتعالى في آيات متعددة، إلا أننا مع هذا الوعد ومع هذه البشارة نحتاج إلى أن نقف وقفات؛ أول هذه الوقفات -أيها الإخوة- أن الله سبحانه وتعالى جعل هذا العلو وهذا الظهور لأهل الدين خاصة دون غيرهم، فالعلو الذي جاء للإسلام إنما هو لأهله، فبقدر ما يتحقق لهؤلاء من وصف الإسلام ويكون معهم من خصاله وأعماله بقدر ما يكون لهم من العلو والارتفاع، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ المنافقون: 8.- ، وإنما ذكر المنافقين دون غيرهم لأنهم مندسون في أهل الإسلام، بينهم، يعيشون معهم، يأكلون ويشربون معهم يشيعون بينهم الأراجيف، وفينا من يسمع أقوالهم، ولذلك قال: ﴿وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾. صدق خبر الله جل وعلا، وأن الله سبحانه وتعالى قد كتب العزة لكل من كان من هذا الدين، متحققًا بأوصافه، عاملًا به.
لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه -كما في الصحيحين البخاري (3518)، ومسلم (2584). في غزوة بني المصطلِق، جرى خلاف بين بعض الصحابة، فاعتزى كل منهم إلى رهطه وطائفته، فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألهم ما الذي حدث؟ ما هذه الدعاوى؟ إنها دعوى الجاهلية. رفع المنافق عبد الله بن أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ رأسه لما سمع هذه المقالة، قال: ليخرجن الأعز منها الأذل. يريد بالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أهل الإيمان من المهاجرين إلى المدينة، فجاءه الجواب من رب العالمين، قال الله تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ المنافقون: 8..
هذا الضمان -وهو العلو والارتفاع والعزة- لا يكون إلا لأهل الإيمان؛ بإيمانهم وأعمالهم وما يقوم في قلوبهم من صالح العمل، فإن العمل الصالح -أيها الإخوة- من الجند الذي ينصر الله به أهل الإسلام، ويحصل به حفظ أهل الإسلام، ويقي به الله تعالى أهل الإسلام شرورًا كثيرة، ويقي به مكرًا عظيمًا قد لا ندركه ولا نتخيله، قال الله تعالى في وصف مكر أعداء الدين لأهل الإسلام: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ إبراهيم: 46. أي: مكرًا عظيمًا تزلزل منه الجبال، وتزول من أماكنها، لكن الله جل وعلا لهم بالمرصاد، وهو جلّ وعلا من ورائهم محيط، وقد قال الله سبحانه وتعالى للمؤمنين وهم في حال ضعف في غزوة أُحد لما أُصيبوا وقُتل منهم من قُتل، وجُرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وكُسرت رَبَاعِيَتُه، وسقط في الحفرة، وأصابه ما أصابه: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ آل عمران: 139. .
أيها الإخوة.. إن الإيمان علوه لا ينكسر في هزيمة عسكرية، ولا بانحسار مادي، ولا بضعف في صناعة أو غير ذلك، أهل الإيمان لا يرتفعون ولا يعلو شأنهم ولا يكون لهم الدولة دون غيرهم إلا بالإيمان الذي علق الله به العلو؛ قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ آل عمران: 110. وقال: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ آل عمران: 139. فهذا العلو لا يُكتسب من انتصار في معركة، ولا يُكتسب من إتقان صناعة آلة أو غير ذلك، وإن كان ذلك من الأسباب التي يظهر فيها العلو، لكنهم عالون ولو لم يكونوا كذلك.
وانظر إلى شأن العرب عندما خرجوا يقاتلون الروم وفارس كيف كانت حالهم، فلم يكونوا أهل صناعة ومعرفة فنون التقدم، لكنهم فاقوا خصومهم أكبر الدول في ذلك الوقت الروم وفارس؛ فاقوهم بإيمانهم وما معهم من اليقين. ولقد حقق الله لرسوله صلى الله عليه وسلم علو الدين، وظهوره وارتفاعه على كل ملة، وبدت بشائر ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يمت عليه الصلاة والسلام إلا وقد دانت لهم أهل الجزيرة كلهم، حتى لم يبقَ فيها من يعبد غير الله. ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم واصلوا المسيرة، وقد بدأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجيش الذي جهزه قبل وفاته؛ جيش أسامة، فأمضاه أبو بكر رضي الله عنه، فكان ذلك فاتحة النصر وفاتحة ظهور الدين في مشارق الأرض ومغاربها، فطبق دين الإسلام مشارق الأرض ومغاربها، وسار مسير الشمس في الآفاق، وبلغ مبلغ الليل والنهار بعزٍّ أعزَّ الله به أهل الإسلام، وذلٍّ أذلَّ الله به أهل الكفر، ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يوسف: 21..
أيها الإخوة الكرام.. إننا إذا تحققنا في أي زمان وفي أي مكان بهذا الوصف، وهو وصف الإيمان، فإننا موعودون بالنصر، والله لا يخلف الميعاد، موعودون بالعلو وإن كنا متأخرين في صناعة المواد، وإن كنا متأخرين في إتقان فنون الحرب وغير ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى لم ينصر أهل الإسلام في موقع من المواقع إلا بما معهم من صدق الإيمان وعظيم الرغبة فيما عند الله عز وجل، وبذل النفيس والغالي في سبيله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ إبراهيم: 14..
نسأل الله جلّ وعلا أن نكون من أهل وعده الذين يظفرون بالنصر على أعداء الإسلام، عاجلًا غير آجل.
أيها الإخوة الكرام.. إن اليأس يدب في بعض النفوس، إن الناظر في أحوال الأمة الإسلامية يجد أن المآسي والنكبات قد اتسع نطاقها وبدأت تتناثر هنا وهناك، فلا تكاد تخف وطأة الكفر على بلد من البلدان حتى تفجع الأمة بنكبة أو نكبات جديدة يرقق بعضها بعضًا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في نبأ الفتن في حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلمرقم (1844).: «وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ».
أيها الإخوة.. إن آلام الأمة لو تتبعناها لطال بنا المقام، ولطال بنا الكلام، ولسنا في شأن تعداد الآلام، إنما في شأن التعامل مع هذه الآلام، وإن الواجب على المؤمن أيها الإخوة أن يتعامل مع هذه الآلام بإيمان جازم ويقين راسخ وعمل صالح يرفع به درجته ويثبت به قدمه، إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لنا فيما رواه الإمام مسلم رقم (118). في حديث عبد الله بن عمرو: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا».
فالواجب على المؤمن أن يستقبل هذه النوازل بصبر ثابت وإيمان راسخ، وأن يرجع إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن في هديه ما ليس في غيره من الكتب والآثار وغير ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعله الله أسوة لأهل الإيمان، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ الأحزاب: 21..
أيها الإخوة.. إننا بحاجة إلى اللجوء إلى الله في ظل هذه الأزمة التي كشرت عن أنيابها على الأمة الإسلامية في بقاع الأرض، فأمس أفغانستان، واليوم العراق، وغدًا سوريا، وبعدها الله أعلم، هذه الهجمة التي يقودها الغرب الصليبي الصهيوني إنما تقابَل بإيمان راسخ وعمل جازم ويقين ثابت؛ فإنه لا سبيل إلى تفادي هذه الكربات واستقبال هذه النكبات إلا بما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة اللجأ إلى الله عز وجل والاعتماد عليه، وعدم النظر إلى هذه القوة المادية، فإن الشيطان يخوف أولياءه بهذه القوة، ونحن معنا قوة لا تهزم، معنا الله الذي قد قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ النحل: 128.. فلنكن من الذين اتقوا والذين هم محسنون؛ فإن الله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد؛ كتب أحد الصحابة لقريش في وصف مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاءكم بجيش كالليل يمشي كالسيل، فأحذركم إياه، فوالله لو جاءكم وحده لهزمكم، فكيف ولو جاء بهذا الجيش الكثيف. فالمراد أن وعد الله لا يتخلف، والصحابة أيقنوا بذلك، فجاءتهم البشائر وحققوا النصر، وهذا الفتح المبين والنشر الكبير لدين الإسلام إنما كان لصدق إيمانهم وعظيم توكلهم واعتمادهم على ربهم.
الوقفة الثانية. . وعد الله أيها الإخوة لأهل الإيمان بالعلو والظهور، لا يلزم منه ولا يستفاد منه أنه لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، بل سيصيبهم كما قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ البقرة: 155..
فلا بد من البلاء ليتميز الصالح من غيره، لا بد من البلاء، فالبلاء سنة الله جل وعلا في عباده وأوليائه وأعدائه، قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ محمد: 31.-.
إن الذين يدعون الصدق والإيمان والصلاح في وقت السعة والرخاء كُثر، لكنهم يمحصون وتخلى ذنوبهم، وتمحص سيئاتهم، ويقل عنهم ما حملوه من أوزار الخطايا بسبب ما يصيبهم من هذا البلاء، فيصفو معدنهم، ويصفو ما في قلوبهم من الإيمان بتلك البلايا، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ محمد: 4..
أيها الإخوة.. إن البلاء الذي يبتلي الله به أهل الإسلام من ضعف أو هزيمة، إنما هو لحكمة بالغة، ولغاية عالية لا تتحقق بغير هذا السبيل، ولذلك كان ابتلاء الله لعباده الصالحين من دلائل الصدق الذي يخص الله به أصفياءه، والناس يُبتلَون ويُمتحنون على حسب إيمانهم؛ الأمثل فالأمثل، والأنبياء أشد الناس بلاء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، ويُبتلى الرجل على قدر ما معه من الإيمان.
أيها الإخوة.. هذا البلاء له حكم بالغة، أشار الله جلّ وعلا منبِّهًا الصحابة في وقعة بدر إلى بعضها؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ آل عمران: 179..
ثالث الوقفات.. أن سنة الله جلّ وعلا في الأيام والدول والأحوال أنها لا تقر على أمر دائم، بل هي سريعة التقلب والزوال، فالشدة تؤذِن بالفرج، والله سبحانه وتعالى قد قال: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ آل عمران: 140 ، فتلك الأيام لا تقر على حال، بل من المحال دوام الحال، فالحال تتقلب وتتغير، وهذه من سنن الله سبحانه وتعالى في خلقه، وهي سنة كونية اجتماعية أجراها الله سبحانه وتعالى في الناس، فالناس لا تستمر حالهم على حال واحدة، بل هم في مناوبة وتعاقب بين المصائب والمواهب، بين المسار والمضار، قال تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ آل عمران: 140..
أيها الإخوة.. إن الله سبحانه وتعالى جعل البلاء موصلًا إلى رحمته، قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ البقرة: 214. اصبر قليلًا فبعد العسر تيسير، وكل وقت له أمر وتدبير، وللمهـيمن في حالتنا قدر، وفوق تدبيرنا لله تدبير ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يوسف: 21.. نرى الأمور ونكرهها، نرى الأمور على غير ما نهوى، ويخرج الله من رحم الظلام فجرًا تشرق به الوجوه، وتُسر به النفوس، ويحقق الله به الوعد الذي وعده هذه الأمة، فكلما اشتدت الكربة رقبنا الفجر.
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه – في وقت خلافته - فقال له: يا أمير المؤمنين، أجدبت الأرض، وقحط المطر، وقنط الناس. قال: إذن مُطرتم. فجعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشتداد الحال من قحط المطر وجدب الأرض وقنوط الناس علامة على قرب المطر، ثم تلا رحمه الله قول الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ الشورى: 28.، والله قريب مجيب، الله سبحانه وتعالى يبتلي العباد بما يبتليهم به ليميز الخبيث من الطيب، ثم بعد ذلك يأتي فرج الله جلّ وعلا.
ولرُبَّ نازلةٍ يَضيقُ بها الفتى *** ذَرعًا وعند الله منها المَخْرَجُ
ضاقتْ فلمَّا استَحْكَمَتْ حَلقاتها *** فُرِجت وكنتُ أظنُّها لا تُفرَجُ
أيها المؤمنون، إنه مهما كان من انهزام وانكسار، فلن يخلف الله وعده.. وهذه رابع المواقف التي يجب أن نقفها مع الله عز وجل.. وعد الله لا يزيد المؤمنين عند اشتداد الكرب إلا ثباتًا، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ الأحزاب: 22.. لَمَّا اشتد الأمر على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، وبلغت القلوب الحناجر، وظنوا بالله الظنون، قال المنافقون: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا، ما وعدنا إلا أمرًا لا تحصيل له، كذبًا لا سبيل إلى إدراكه، وأما المؤمنون الثابتون المصدقون لوعد الله عز وجل فمهما اسودت الدنيا في وجوههم لا يتزلزل الإيمان في قلوبهم، بل هم مصدقون لوعد الله ورسوله.
وعد الله أيها الإخوة لا يخلف، قال تعالى: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ إبراهيم: 47 وقال تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ المجادلة: 21، وقال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ غافر: 51. ، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ الأنبياء: 105. ، وقال الله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ إبراهيم: 13. قال الله جلّ وعلا مبشرًا أهل الإيمان بعد هذا التهديد: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ﴾ إبراهيم: 13..
إننا بحاجة إلى أن ننظر إلى المستقبل بنظرة متفائلة، فالبشائر كثيرة التي تدل على أن الأمة قد أقبلت على خطوة يرتفع بها دينها، ويعلو بها شأنها، إن الخصوم أعداء الإسلام لم يخرجوا من ديار الإسلام عقب الاستعمار إلا وقد أيقنوا أنهم خلّفوا في بلاد الإسلام ما يأمنون به على مصالحهم ويقوم به شأنهم ويقوم بما يريدون تحقيقه في بلاد الإسلام، فلما رأوا أن الأمة قد عادت إلى ربها على وجه العموم، فالخير انتشر في الأمة، والدعوة إلى الله عز وجل سادت، وانقلبت عليهم الموازين، وأصبحوا يرون في الذين خلّفوهم بعدهم لا يحققون مقاصدهم، ولا يحققون مآربهم، عادوا بجيوشهم ليسيطروا على الأمة ويمنعوها من تحقيق العلو والنصر، ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يوسف: 21.، كل هذا السعي إنما هو لتمكين اليهود وإفشال كل من يدعو إلى الله ورسوله، ولو كان يدعو بالكلمة الحسنة ويدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، إنهم لا يريدون أن تعلو كلمة الله في مكان من الأرض؛ كما جاء في دعاء عمر رضي الله عنه: اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك.
هذا الوصف منطبق على الصهاينة الصليبيين الذين يحتلون بلاد العراق، ويحتلون غيرها من بلاد المسلمين، نسأل الله جلّ وعلا أن يكشف الكربة عن هذه الأمة، وأن يعز الإسلام وأهله، وأن يذل الكفر وملله، وأن يخرج هؤلاء الكافرين من بلاد الإسلام أذلة صاغرين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الإخوة.. إننا بحاجة إلى أن نرجع إلى كتاب الله عز وجل، نقرأ فيه السنن، ونطالع فيه ما ذكره الله سبحانه وتعالى من سبل النجاة في الكربات والمدلهمات، نتأمل فيه الخير الذي يخرجنا من هذه الأزمات، والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وقد قال سبحانه وتعالى في خصوم الدين: ﴿فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾ مريم: 84. . وقد جعل الله لكل شيء قدرًا، والله لا تعجله الأماني، ولا تعجله دعوات الناس، فالله جعل لكل شيء قدرًا، فإذا جاء الكتاب وبلغ أجله فإن الله سبحانه وتعالى منجز وعده، لا إله إلا هو وحده، نصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، وأظهر دينه. نسأل الله بأسمائه وصفاته أن يقر الجميع بنصر الإسلام، وأن يحقن دماء إخواننا في العراق وفي سائر بلاد الإسلام، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.