أيها المعتبر في حساب الشهر المراصد أم الرؤية الشرعية
فيما يتَّصل بالمراصد فأنت ذكرت قضيتين: المراصد والحساب، فالمراصد هو أقرب إلى الرؤية، بل هو نوع من الرؤية، لكنها تعتمد وسائل التقريب المعاصرة، فاستعمال المراصد لا حرجَ فيه للاستعانة برؤية الأهلة، ولا يوجد ما يمنع ذلك، وقد صدرت بهذا الفتوى من جهاتٍ عديدة، منها هيئة كبار العلماء، ومنها جهات ومجامع فقهية أخرى، والمسألة - ولله الحمد - واضحة وجليَّة، أنه لا حرج في أنه يُرى الهلال من طريق المراصد.
وهناك إشكاليَّة فقهيَّة ذكرها بعض الناس، أنه إذا رئي في المرصد ولم يُرَ بالعين المجردة، فهل تعتبر رؤيا المرصد أو لا تعتبر؟
من الفقهاء من له منهج، وهو أن هذه المراصد يُستفاد منها في النَّفي دون الإثبات، ومنهم من يعتمدها في النَّفي وفي الإثبات، والمسألة من حيث الطرح الفقهيّ قريبة، ولها عدة وجوه، والذي يظهر أن اعتماد هذا لا حرج فيه، وقد صدرت به الفتوى من جهات عديدة كما ذكرت.
وأما الحساب فهو قضية مختلفة؛ وذلك أن من أهل العلم من حكى الإجماع على عدم اعتبار الحساب، بل من فقهاء المالكية من قال: إنه إذا اعتُمد ثبوت الشهر من طريق الحساب، فلا يلزم الناسَ أن يصيروا على هذا الإخبار أو على هذا الإعلام، بأن الشهر قد دخل إذا كان عمدته الحساب، وعلى هذا جمهور فقهاء العصر أيضًا.
والذي يظهر في هذه المسألة: أنَّ الحساب معتبر في النفي، لا في الإثبات، إذا تمكن الناس من الرؤية وعملوا بها، وأما إذا تعطلت الرؤية، ولم يكن هناك من يتراءى كما هو الحال في أكثر شهور السنة؛ فهنا العمل بالحساب عمل بأمرٍ ظنيِّ ويغلب على الظن صحته، فلا حرج في اعتماده واعتباره في هذه الحال، وهو أفضل من أن يعتمد الناس على لا شيء، يعني: ليس هناك رؤية فأقرب ما يعمل به في حال انعدام الرؤية هو الحساب.
أما فيما يتصل بثبوت شهر رمضان أو عدمه، فالأقرب من الأقوال أن الحساب يُعتمد في النفي لا في الإثبات، وهذه المسألة مسألة قريبة - مثلما ذكرت لك - لا فيما يتَّصل بالمراصد، ولا فيما يتَّصل بالرؤية، ولا فيما يتصل بالحساب، ليس هذا من الشأن الذي يمكن أن يُتداول، وأن يُستند فيه إلى قول فلان أو إلى مذهب فلان؛ لأن الأمر محسوم من حيث الواقع العملي، فالناس تبع لأئمتهم وتبع لما يُعلن في بلادهم، «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ»رواه الترمذي (697)، وأبوداود (2324)، وابن ماجة (1660)، وصححه الألباني في صَحِيحُ الْجَامِع: (3807).
إذًا: كل هذا يُفهمنا أنَّ المقصود من الصيام، هو تطهيرُ النَّفس من الآثام والذُّنوب، فينبغي البعدُ عن الآثام الظَّاهرة البيِّنة الجليَّة، ثم المرتبة الثَّانية هي أن نتَّقي الشُّبُهات، «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ » صحيح مسلم (1599)، فلو وقع الإنسانُ في شيءٍ من المحرَّمات، أو وقع في شيءٍ من الشُّبهات فهل هذا مفطر؟ الجواب: ليس مفطرًا، لكن هل ينقص أجر الصيام؟ نعم ينقص أجر الصيام، فيما إذا كانت معصية محقَّقة، أما إذا كانت مشتبهة، فإنه لا ينقص أجر الصيام، إلا إذا كان عنده ميل إلى أنَّ هذا من الشُّبهات التي ينبغي أن يتوقاها ولم يتوقها.