الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله، وعلى آله وأصحابه، ومن اتبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فاليمين هي الحلف بالله أو بشيء من أسمائه أو صفاته؛ لتأكيد شيء أو نفيه، أو حث أو منع، والأصل وجوب حفظ اليمين؛ لأن الله تعالى قال: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} المائدة:90، وحفظ اليمين يكون بأن لا يحلف الإنسان في كل شيء، دقيق وجليل؛ لأن الله تعالى ذم الحلاَّف، {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} القلم:10، والحلاف هو كثير الأيمان والحلف؛ وذلك لأنه يشعر بضعف تعظيم الله تعالى.
ومن حفظ اليمين أن لا يحلف إلا بالله تعالى؛ لما في الصحيحين من حديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت)) البخاري (2679)، ومسلم (1646).، فالحلف بغير الله تعالى محرم وهو من الشرك، ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك))، كما في حديث ابن عمر في المسند(6072)، وأبو داود (3251)، والترمذي (1535)، وقال الترمذي: حديث حسن، وصححه ابن حبان (4358)، والحاكم (7814) على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. بإسناد جيد.
ومن حفظ اليمين أن يفي الإنسان بيمينه إذا كان ذلك خيرًا، فيما إذا كان حلف على مستقبل، فإن كان بين خيارين فليختر الأفضل، ولا تمنعه اليمين من أن يرجع عن الشر إلى الخير، أو عن المفضول إلى الفاضل، لقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} البقرة:224.
ومن حفظ اليمين أنه إذا لم يفعل ما حلف عليه، يجب عليه أن يكفر كفارة يمين، يقول الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}المائدة:89.
فإذا تعددت الأيمان، كأن يحلف أن لا يسافر، وأن لا يزور أحدًا، وأن لا يكتب، وأن لا يقرأ، وحنث فيها كلها، فهل تكفي كفارة واحدة؟ للعلماء في ذلك قولان:
منهم من قال: إنه يكفر عنها كفارة واحدة، ولو كانت الأيمان مختلفة الموضوعات؛ لأن موجَبها واحد ـ وهو الكفارة ـ فتتداخل، وإن كان السبب مختلفًا بالنظر إلى أنواع الأيمان، لكن الحقيقة أن السبب واحد في كل هذه الصور، وهو الحلف واليمين، فاتحد السبب، واتحد الموجَب، فتتداخل الأحكام والكفارات، وهذا مأخذ قوي.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن السبب ليس الحلف فقط، وإنما الحلف في أمر معين، وبالتالي فإذا اختلفت الأيمان فإنه يكفر عن كل يمين كفارة، وهو قول الجماعة، وقد عزاه بعض أهل العلم إلى الجمهور أكثر أهل العلم.
وأقرب القولين للصواب القول الأول، وأنه تكفي كفارة واحدة عن جميع الأيمان، لكن ينبغي أن يبادر في التكفير، وأن لا يقول: أنا أنتظر حتى تجتمع أيمان كثيرة، ثم أكفر كفارة واحدة عن كل الأيمان! فهذا تأخير لما فرض الله تعالى، والواجب المبادرة، لكن لو وقع ولم يكفر الإنسان في أيمان متعددة، فيكفيه كفارة واحدة، والله أعلم.