السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد...
فأهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات، حياكم الله في هذه الحلقة من برنامجكم [فادعوه بها].
الله -جل في علاه- أخبر في كتابه أنه حفيظ حافظ سبحانه وبحمده، يقول الله -جل في علاه-: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾[هود:57]، ومر معنا في معنى [الحفيظ] أنه الذي يحفظ الأشياء ويصونها، وأنه الذي يحصي الأشياء ويعلمها علمًا لا يخفى عليه من شأنها خافية، وأنه الذي لا ينسى خلقه، ولا يعتريه غفلة عن خلقه جل في علاه، هذه كلها معان مستفادة من اسمه جل في علاه الحفيظ والحافظ، ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾[هود:57]، ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾[يوسف:64]، سبحانه وبحمده.
لو تأمل العبد يا إخوة، ويا أخوات حفظَ الله تعالى لكونه وخلقه لرأى شيئا عجيبًا؛ ولهذا يمكن أن يقال: إن الحفظ الذي يتصف الله تعالى به نوعان: حفظ خلق وكون، وهذا واحد، النوع الثاني: حفظ دين، وشرع، وهذا "النوع الثاني" من الحفظ، كلاهما دلت عليه النصوص في كتاب الله عز وجل، وفي سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فالله تعالى يخبر في كتابه أنه على كل شيءٍ حفيظ، كما قال -جل في علاه-: ﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾[سبأ:21]، وكما قال سبحانه: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾[هود:57]، وكما قال -جل وعلا-: ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾[يوسف:64]، وكما قال سبحانه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر:9]، حفظ الله لهذا الكون لا يخرج منه شيء بالكُلية؛ فهو على كل شيء حفيظ، حفظ الله السماء، وأخبرنا بذلك فقال -جل وعلا-: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾[الأنبياء:32]، حفظ الله تعالى السماء من أن تسقط على الأرض، فهو يمسكها -جل وعلا- أن تقع على الأرض، كما قال -سبحانه وبحمده-: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾[الحج:65]، حفظ السماء من أن تزول، فهو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا كما قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ﴾[فاطر:41]، أي لا يمسكهما أحدًا بعده جل وعلا.
فلا أحدَ يحفظ هذه السماوات، وهذه الأرض إلا الله جل في علاه، يمسك البحار أن تفيض على اليابسة، أو أن تطمرها، فلو شاء جل وعلا لطمر هذه الأرض، فلم يبق فيها بقعة بلا ماء، بل من رحمته أنه يمسك البحار أن تفيض، وتزداد، وتقل، وتكثر، فكل ذلك عنده بمقدار سبحانه وبحمده.
من الذي يمسك الطير في السماء؟ إنه الله جل في علاه سبحانه وبحمده، أو لم يقل في محكم كتابه: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ﴾[الملك:19]، لا يمسكهن من أحد﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾[الملك:19]، يمسك -جل وعلا- أرواحنا، فهو الذي يتوفانا حين ننام، ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى﴾[الزمر:42]، هكذا يحفظ الله تعالى أرواح بني آدم أن لا تفارق الأبدان إلا في أجَلها التي قدرت ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾[الرعد:38]، هذا الأجل إذا جاء لا تستقدم ساعة، ولا تُستأخر ساعة، بل كل ذلك بحفظه جل في علاه؛ فهو الذي يحفظ الأرواح، وهو الذي يمسكها، وهو الذي يحفظ هذا الكون، فكل ذرة في الكون هي بحفظهِ جل في علاه، ولولا حفظه لتلاشى هذا الكون، ولما قام، ولما انتظم.
الله تعالى يمسك السماء، يمسك الكواكب، يمسك الشمس جل في علاه، ويحفظها في سيرها الدقيق، لا يتقدم، ولا يتأخر ولا لحظه، ولا ثانية، كما قال -سبحانه وتعالى-: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾[الرحمن:5]، أي أنهما بحساب دقيق لا يتقدم، ﴿لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾[يس:40]، وفي نظام دقيق لا ينخرم، ولذلك الفلكيون يحصون الدقائق والثواني وأجزاء الثانية لحركة الشمس، وحركة القمر، وبعض الناس يذهلُه هذه الدقة في الحساب، لكنه يغفل عن هذا النظام البديع، والحفظ الدقيق للذي يسير هذه الكواكب.
سبحان الله! اشتغلنا بالمصنوع عن الصانع، فيأتي المنبهر بحساب الفلكيين، ويقول: إنهم يعرفون الدقيقة، والثانية، وجزء الثانية في حركة الكواكب؛ نعم، وهذا من علم الله عز وجل الذي أطلعهم عليه، ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾[الإسراء:85]، لكن أسأل لماذا لا نتجاوز هذه النقطة إلى ما وراءها، لماذا لا نستدل بهذه الدقة التي وصلنا إليها وعرفناها إلى بديع صنع الخالق الذي أتقن كل شيء سبحانه وبحمده، الذي أجرى هذا الكون وفق هذا النظام الدقيق الذي لا ينخرم، ولا يختل، ولو اختل لحظة لفسد الكون، إنه الله، الحفيظ، الحافظ جل في علاه، وكل هذا من حفظه لكونه الذي لا ينخرم ولا يختل في شيءٍ من شأنه، ومن خلقه جل في علاه.
أما النوع الثاني من الحفظ فهو حفظ شرعه، حفظ الدين، أنزل الله تعالى الرسالات، وأنزل الله تعالى الكتب والبيانات، وأقام الدلائل والشواهد، وحفظ رسالاته أن يتسور إليها الكذابون، ولذلك كل من ادعى الرسالة كذبًا؛ فإن الله يفضحه، وذلك حفظًا لدينه، وشرعه، ورسالته، ليس في هذا الزمان فحسب، بل في كل الأزمنة، فالله لا يمكِّن كاذبًا من أن يضل الناس دون أن يفضحه، أعظم فتنة تطرق الدنيا "فتنة الدجال" شر غائب ينُتظر؛ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم[سنن الترمذي(2306)، وحسنه] ويأتي بخوارق، ويمكِّنه الله تعالى من أمور عظيمة، لكن أقام الله فيه ما يعرف كلُّ ذي بصر أنه كذاب، فبَينَ عينيه مكتوب [ ك ف ر]، وفي نهاية أمره يفضحه الله تعالى فيقتله عيسى ابن مريم عليه السلام، فلا يمكن أن يقر الله تعالى كاذبًا يكذب على دينه.
وأما في هذا الشرع، وفي هذا الدين، العظيم، القويم فقد تكفل الله بحفظه ما لم يأت في شريعة قبل، ليش؟ لأنها خاتم الرسالات، فلا رسالة بعدها، ولذلك كان مقتضى أنها خاتمة الرسالات، أن تُحفظ حفظًا يبقى نفعه، أي نفع هذه الرسالة، ونفع هذا القرآن، إلى القرون، والأجيال، إلى أن يرث الله تعالى الأرض، ومن عليها فقال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر:9]، فالله تعالى حفظ القرآن وقت إنزاله، فحفظه من مُسترِق السمع، من الجن الذين كانوا يقعدون مقاعد للسمع، يقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا﴾[الجن:9]، هذا من حفظ شريعته، ومن حفظ دينه.
وكذلك حفظ هذا الدين من الزيادة، والنقصان، فالقرآن في الدنيا كلها لا يختلف فيه حرف، ولا ينقص منه كلمة، بل لو وجد المسلمون كتابًا فيه نقص في حرف لأحرقوه، وما قبلوه، ذاك أنه حفظه الله تعالى "الحفيظ الحافظ".
إن من حفظ الله تعالى لعباده وأوليائه، وحفظ دينه؛ أن يحفظ الإيمان في قلوبهم، فهو يمسك القلوب الموقنة أن تزيغ، وأن تضلَّ، »لولا أنتَ ما اهْتَدَيْنا ولا تَصَدَّقْنا ولا صَلَّيْنا«[صحيح البخاري(2837)، ومسلم(1802/123)]، فهو الذي يحفظ إيمان العبد، ويقيه شر السوء والشر، ويقيه الانحراف والضلال، فالقلوب بين إصبعين من أصابعه يصرفها كيف يشاء، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن عمرو: »إنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِن أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ«[صحيح مسلم(2654)]،اللهم صرف قلوبنا على طاعتك.
هكذا يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن القلوب إنما تثبت على الحق بتثبيت الله، وحفظه، ﴿وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾[الإسراء:74]، ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾[إبراهيم:27]، جل في علاه، فمن حفظه للدين؛حفظه لإيمان المؤمنين أن يزولا، أو أن يحولا، أو أن يرتد، أو أن ينتكس، لذلك يفرح المؤمن بحفظ الله، ويسعى في أسباب إدراك حفظه جل في علاه؛ فإنه لولا حفظه لما استقامت للإنسان صلاة، ولا صلحت له عبادة، ولا قرَّ له إيمان، ولا سكن في قلبه يقين «اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا وَثَبِّتْ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا إِنَّ الْأُولَى».[سبق]
﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[الحجرات:17]، فالإيمان مِنَّة من الله تعالى على عباده، هو الذي وهبها، وهو الذي يحفظها من الزوال، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: »احفَظِ اللهَ يحفَظْك«[سنن الترمذي(2516)، وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ]،في وصيتهِ لابن عباس، وهنا يبين أن حفظ الله تعالى يكون نتيجة عمل الإنسان، وهذا في حفظ الدين والإيمان، فإنه حفظ يقي الإنسان الشر، ويقيه الضلال، ويقيه الزيغ، ويقيه الآفات في قلبه، وفي بدنه، وفي حاله، وفي شأنه، وفي مستقبله، وفي حاضره، فمن حفظ الله حفظه الله.
إن الله تعالى يحفظ عباده بوقايتهم ما يكرهون، وهذا الحفظ شامل، لكن لأوليائه من الحفظ ما ليس لغيرهم، يقول الله -جل وعلا-: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾[الرعد:11]، وهذا لكل إنسان، لكل بني آدم أرسل الله لهم حفظه يحفظونهم، ويقونهم الشر، لكن المؤمن له مزيد حفظٍ يقيه الشرور، ويقيه المعاقب، والمفاسد، والآفات، ومن حفظه أنه كتبَ أعمال العباد، فما من عمل من أعمال العباد إلا وهم في كتاب، كما قال -جل وعلا-: ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا [13]اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾[الإسراء14:13]، هذا النشر هو نتيجة الكتابة التي تكون في الدنيا كما قال الله: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[الجاثية:29]، هذا نوع من الحفظ الذي ثبت لكل البشر، وهو من حفظ الله تعالى لخلقه، وهو مما يندرج في معاني اسمه "الحفيظ الحافظ".
نسأل الله تعالى أن يحفظ علينا إيماننا، وأن يثبت يقيننا، وأن يقينا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يحفظ أسماعنا، وأبصارنا، وقوانا، وأن يستعملها، وأن يعيننا على استعمالها فيما يرضيه عنا، وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم [فادعوه بها].
أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.