السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد...
فأهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة -إن شاء الله تعالى- سنتناول قول الله -جل وعلا-: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾[الذاريات:58]، تكملنا عن هذا الاسم من أسماء الله تعالى عن اسم الرازق واسم الرزاق، وأنهما اسمان يدلان على صفة الرزق، والله تعالى أمرنا بأن ندعوه بأسمائه -جل في علاه- فقال: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾[الأعراف:180]، فكيف ندعو الله تعالى باسم الرازق واسم الرزاق؟
هناك نوعان من الدعاء: دعاء مسألة وطلب، وهو أن يقول الإنسان على سبيل المثال: يا رزاق ارزقني، يا رازق أعطني، هذا نوع من الدعاء لكن يختلف هذا من حيث الأثر بين شخص يستحضر معنى الرزاق وأنه الرزاق ذو القوة المتين، وبين شخص يقول هذا الاسم كما يقول سائر الأسماء دون نظر في معناه، ودون تدبر لمضمونه مثل لما تقول لشخص: يا صالح، تناديه أنت تناديه لأن اسم صالح، ما تفكر هل هو في الحقيقة والواقع صالح أو لا؟ ما يأتي في بالك المعنى الذي يدل عليه الاسم عندما تدعو فلانا أو تدعو فلانًا، قد تدعو من تكره فتقول له: يا حبيب؛ لأن اسمه حبيب، لكن أنت لا تحبه ولا ترغبه، ولكن هو هذا الاسم التصق به فأصبح يسمى به.
الله تعالى أسماؤه ليست أعلامًا مجردة عن المعاني، ليست كأسماء الخلق لا يُنظر فيها إلى معناها، إنما الأسماء التي سمى الله تعالى بها نفسه لها معاني عظيمة ولذلك كانت أسماء حسنى، كما قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾[الأعراف:180]، وله المثل الأعلى جل في علاه، والمثل الأعلى صفة وكثير من هذه الصفات التي يتصف بها الله -عز وجل- تدل عليها أسمائه، فأسماؤه تدل على صفاته وإن كانت الصفات في الخبر أوسع منها من الأسماء، فإن الأسماء محدودة، وأما الصفات فهي كثيرة جدًّا، ذكرها الله تعالى في كتابه، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته.
المقصود أنه لما أقول: يا رزاق وأكون مستحضرًا معنى هذا الاسم، وحاضر في ذهني أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأنه ما قسمه الله تعالى آت، وأن الله تعالى هو الذي يرزق الطيور في السماء، والنملة في الجحور، والسمكة في البحور، وأن الله تعالى يرزق الخلق ما تقوم به أبدانهم رزقًا واسعًا عامًّا لا يحجره على أحد، ورزق لعباده وأوليائه بصلاح قلوبهم، لما أستحضر هذه المعاني سيكون هذا في قلبي له تأثير، وله أثر في صدق الإقبال والتورع وإبداء اللهفة والرغبة، وصدق الطلب والافتقار إلى الله جل وعلا.
لذلك من المهم عندما ندعو الله بأسمائه وصفاته أن نستحضر هذه المعاني، معاني أسمائه جل في علاه فإنها تفتح أبوابًا قد تنسيك مطلوبك، وأنا أقول هذا وأكرره لأنه من المهم أن يستحضر الإنسان هذا المعنى، أنه كثير من الأشياء التي نطلبها قد نغفل عنها، عندما نستحضر أن الله تعالى هو الرزاق، أن الله تعالى هو الكريم وهلم جرًّا في سائر الأسماء، لما تستحضر هذه المعاني قد تغفل عن طلبك فيعطيك الله تعالى خيرًا مما تؤمِّل، وهو معنى ما جاء به الأثر وإن كان في إسناده مقال: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته خير ما أعطي السائلين».[أخرجه الترمذي في سننه(2926)، وحسنه، وضعفه الألباني في الضعيفة (1335)]
فالذي يقول: يا رزاق ثم يتأمل عظيم ما في هذا الاسم من جلال الله، وعظيم صفاته سبحانه وبحمده فيدهشه هذا عن مسألته فإن ذاك يبشر بخير كبير، وعطاء من رب يعطي على القليل الكثير سبحانه وبحمده، فسيجد من الله عطاء يفوق كل وصف، يعطيه خير ما يعطي السائلين، هذا هو من رب العالمين، وهذا من فوائد دعاء الله تعالى بأسمائه وصفاته.
وقد دعا النبيون الله -عز وجل- بالرزق كما فعل إبراهيم عليه السلام عندما سأل الله تعالى أن يرزق ولده وأهل مكة رزقًا خاصًّا، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾[البقرة:126]، وقال تعالى: ﴿وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾[إبراهيم:37]في دعاء إبراهيم عليه السلام. وكان النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقول: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً»[صحيح البخاري(6460)، ومسلم(1055/126)]، حتى القوت، القوت ما هو؟ لماذا قال النبي : «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً»، فما هو القوت؟
القوت: هو الطعام الذي تقوم به الأبدان، النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله أن يرزقه الكفاية، فكل شيء يزيد عن الكفاية في الحقيقة عند أولي الأبصار والعقول نقص، كل زيادة عن الكفاية تنقص الإنسان بنوع من النقص إلا أن يتخلص منها بإخراجها في طاعة الله عز وجل، وهذا معنى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: «مَا يَسُرُّني أَنَّ عِنْدِي مِثل أَحُدٍ هذا ذَهباً تَمْضِي عَلَيَّ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ وعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ، إِلاَّ شَيْءٌ أَرْصُدُهُ لِدَيْنِ، إِلاَّ أَنْ أَقُولَ بِهِ في عِبَاد اللَّه هكَذَا وَهَكَذا»[صحيح البخاري(6444)]، يعني إنفاقه وتصريفه في أوجه الخير.
النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله -عز وجل- فيقول: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً»، أي ما تحصل به الكفاية، ما يحصل به الكفاف، وقد ندبنا الله تعالى إلى أن نسأله -جل في علاه- الرزق، فمنه يُطلب الرزق لا من سواه: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾[الذاريات:58]،فجاء رجل فقال: يا رسول الله كيف أقول حين أسأل ربي؟ فقال: قل: «قُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي، وَارْحَمْني، وَعَافِني، وَارْزُقني، فَإِنَّ هَؤُلاءِ تَجْمَعُ لَكَ دُنْيَاكَ وَآخِرَتَكَ»[صحيح مسلم(2697)]، وجمع أصابعه إلا الإبهام يعني أربع دعوات: «اللَّهُمَّ اغفِرْ لي، وَارْحمْني، وعافِني، وارْزُقني»، هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله تعالى في تعليمه لأصحابه.
ونحن بين السجدتين كما جاء في حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس بإسناد لا بأس به أنه كان يقول: «اللَّهُمَّ اغفِرْ لي، وَارْحمْني، واهْدِني، وعافِني، وارْزُقني»[سنن أبي داود(850)، والترمذي(284)، وقال الحاكم: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، ووافقه الذهبي]، هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله تعالى هذا الرزق والعطاء منه بهذه الأدعية، وكلها أدعية نبوية وردت لبيان أن الرزق يُطلب من الله جل وعلا، لا يُطلب من سواه، وهذا نمط ونوع من أنواع الدعاء.
إن من أنواع الدعاء الذي يُدعى الله تعالى به، ويُدعى بأسمائه لأنه قال: فادعوه بها، يُدعى بالأسماء هو أن نتعبد الله تعالى بمعاني هذه الأسماء، فقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾[الأعراف:180]،ادعوه بها في اسم الرازق والرزاق أن نثبت له هذين الاسمين، هذا من دعاء الله تعالى بأسمائه، نؤمن بأن الله من أسمائه الرازق، من أسمائه الرزاق كما دلت على ذلك النصوص.
الثاني أن نثبت مقتضى هذه الصفات أو هذه الأسماء من الصفات فنؤمن بأن الله من صفاته أنه الرزاق، وأنه الرازق جل في علاه، فمن صفاته إيصال الرزق للعباد، والفرق بين الرازق والرزاق هو في الزيادة، فالرازق يثبت أصل هذه الصفة، والرزاق يبين أنها صفة كبيرة عظيمة جليلة، فهو الرزاق جل في علاه الذي يرزق جميع الخلائق، هذا من دعاء الله تعالى بهذه الأسماء أو بهذين الاسمين.
ومن دعاء الله تعالى بهذين الاسمين أن يعتقد العبد أن الرزق الذي في الكون كله إنما هو من الله جل في علاه، الله -سبحانه وبحمده- يقول للمشركين في إقامة الحجة عليهم: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾[يونس:31]، فالإقرار بأن الله هو الرازق الرزاق جل في علاه هو مما يتحقق به توحيد الربوبية لله عز وجل، وأنه رب العالمين فإن من مقتضى ربوبيته -سبحانه وبحمده- أنه يربي عباده ويوصل إليهم النفع، يحجب عنهم الضر، يمنع عنهم ما يسوؤهم كل ذلك من ثمار الإيمان بأنه الرزاق الرازق جل في علاه، وهو من التعبد لله تعالى بهذا الوصف.
فمن التعبد بهذا الوصف أن نستدل به على ربوبيته، فكون الله تعالى رازقنا فهذا دليل أنه ربنا ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾[يونس:31]،إنه الله الذي يرزقني، إنه الله الذي منحني القوة، إنه الله الذي أوصل الطعام إليَّ ثم لما أكلته أوصل هذا الطعام إلى بقية أعضائي، الله أكبر.
يعني نحن عندما نستكبر ويظن بعضنا أنه قادر وينتشي على الناس ويعلو عليهم بما هو عليه من نعم، يقال له: أنت ضعيف، والله أنت ضعيف، ولا أدل على ضعفك من أنه لا تملك لنفسك إيصال الطعام إلى أعضائك، أنت تستطيع أن تذهب وتشتري كيسة خبز، وتشتري أفخر الطعام وأطيبه وتضعه بين يديك، ثم تأخذه بيدك وتمضغه ثم تبتلعه فتدخله جوفك، لكن بعد هذا من الذي يوزع هذا الطعام إلى بدنك؟ من الذي يحوِّله؟
هذه العمليات التي تجري في الجهاز الهضمي في طحن الطعام ومعالجته ثم استخلاص النافع منه، ثم ضخ ذلك في الدم، ثم الدم يوصله إلى كل جزء من بدنك، من الذي يرزقك هذا؟
إنه الله جل في علاه، هل نستحضر هذا المعنى ونلمح هذا الملمح عندما نذكر أنه الرازق، أنه الرزاق؟ أم نكتفي فقط بأنه الرازق الذي يعطينا ويرزقنا الكسب فقط؟
لا، الرازق أوسع من هذا، أنه يدل على كل هذا، وهذا هو الله الذي طلب منا عبادته، وجعل الغاية من خلقنا أن نعبده وحده لا شريك له، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[56]مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ﴾[الذاريات:56-57] فهو الغني -جل في علاه- سبحانه وبحمده، ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ[57]إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾[الذاريات:57-58].
ما أحوجَنا إلى نستحضر مثل هذه المعاني بها تحيا قلوبنا، بها تمتلئ قلوبنا محبة لله عز وجل، وهذا من ثمار الإيمان بأنه الرازق، نستكمل هذا إن شاء الله تعالى في الحلقة القادمة من برنامجكم [فادعوه بها] أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.