السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى أحمده حق حمده لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، له الكمالات كلها لا يبلغ العباد قدر الله جل في علاه لا يحيطون به علمًا، له الحمد كله أوله وآخره، ظاهره وباطنه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان واقتفى أثره بهدى إلى يوم الدين.
أما بعد.
فحياكم الله وأهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم [فادعوه بها].
الله جل في علاه يقول مخبرًا عباده في محكم كتابه: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾[الأعراف:180]، فكيف ندعوه بها؟
ندعوه بها -جل في علاه- بأن نجعلها في دعائنا وسؤالنا وطلبنا عندما نرفع أيدينا فنقول: يا الله، فنحن نسأله بأسمائه، ندعوه بأسمائه، عندما نقول: يا رحمن، فنحن نسأله بأسمائه، كما قال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾[الإسراء:110].
وننتقي من هذه الأسماء ما يناسب دعاءنا، لذلك في دعاء الاستخارة كان مفتتح السؤال والطلب ذكر ما يناسب حال السائل؛ لأنه لا يعلم ولا يقدر على الوصول إلى الخير إلا بعلم الله وقدرته، كان ذلك مفتتحًا في دعاء الاستخارة الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم أمته فكان الدعاء «اللَّهُم إِني أَسْتَخِيرُكَ بعِلْمِكَ، وأستقدِرُكَ بقُدْرِتك، وأَسْأَلُكَ مِنْ فضْلِكَ العَظِيم، فإِنَّكَ تَقْدِرُ ولا أَقْدِرُ، وتعْلَمُ ولا أَعْلَمُ، وَأَنتَ علاَّمُ الغُيُوبِ. اللَّهُمَّ إِنْ كنْتَ تعْلَمُ أَنَّ هذا الأمرَ خَيْرٌ لي في دِيني وَمَعَاشي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي»أَوْ قالَ: «عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِله، فاقْدُرْهُ لي وَيَسِّرْهُ لي، ثمَّ بَارِكْ لي فِيهِ، وَإِن كُنْتَ تعْلمُ أَنَّ هذَا الأَمْرَ شرٌّ لي في دِيني وَمَعاشي وَعَاقبةِ أَمَرِي» أَو قال: «عَاجِل أَمري وآجِلهِ، فاصْرِفهُ عَني، وَاصْرفني عَنهُ، وَاقدُرْ لي الخَيْرَ حَيْثُ كانَ، ثُمَّ رَضِّني بِهِ».[صحيح البخاري(6382)]
هذا دعاء يتحقق به ما أمر الله به في قوله: ﴿فَادْعُوهُ بِهَا﴾[الأعراف:180]، فكم من اسم في هذا الدعاء؟ كم من اسم وصفة ذكرها الله تعالى في هذا الدعاء كلها مناسبة لحال الداعي، إذًا فادعوه بها أي ندعو الله تعالى بأسمائه المناسبة لحاجتنا بأسمائه الموافقة لمطالبنا وسؤالاتنا.
أما النوع الثاني من الدعاء فهو دعاء الله تعالى بالتعبد له بفهم هذه الأسماء وهو ما يُعرف بدعاء العبادة، دعاء العبادة في أسماء الله تعالى هو أن تعرفها، تحصي ألفاظها أولًا، من كتاب الله عز وجل، ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تتأمل معانيها، وتدرك ما فيها من دلالات الكمال وإشارات الجمال التي اتصف بها الرب جل في علاه سبحانه وبحمده العزيز الغفار.
هذا مما يندرج في دعاء الله تعالى بأسمائه، طبعًا هذا الدعاء له آثار تكون في سلوك الإنسان، وتترجم في أعماله، فإن من دعاء العباد أن نتعبد لله تعالى بمقتضيات تلك الأسماء، بآثار تلك الأسماء إذا كان لها آثار تتعلق بعمل العباد، ومسالكهم، وتصرفاتهم، وأخلاقهم.
إن اسم الله تعالى العليم، اسم الله تعالى عالم الغيب، اسم الله تعالى العلام، كلها أسماء تدل على كمالٍ في ربنا جل في علاه، وأنها دالة على عظيم علمه سبحانه وبحمده.
إيقان العبد بأن الله عليم يلقي في قلبه هيبة وخشية وإجلالًا لله عز وجل، ولذلك قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾[فاطر:28]، العلماء بماذا؟
العلماء به، وبصفاته، وبما له من كمالات، فإذا امتلأ قلب العبد علمًا بالله، وأنه العليم خافه، وخشيه لكن فرق الخوف الذي يكون من الله عن الخوف الذي يكون من غيره أن كل من خاف من غير الله فرَّ منه، وهرب عنه، وأما من خاف الله عز وجل فإنه لا وزر، لا ملجأ إلا بالفرار إليه، والإقبال عليه.
ولذلك قال الله تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾[الذاريات:50].
إذا علم العبد بأن الله تعالى عليم، عليم بظاهره، عليم بباطنه، عليم بأحواله كلها، عليم به في حال غيبته وانفراده عن الخلق، عليم به في حال شهادته ومعاملاته للناس، عليم به في معاملته لله عز وجل، وأدائه الحقوق التي لله أو للخلق كان ذلك موجبًا للخوف، والوجل، وهذا يدفع العبد إلى أن يبلغ أعلى المنازل. كيف يبلغ أعلى المنازل؟
أعلى المنازل في الدين هي مرتبة الإحسان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّه كَأَنَّكَ تَراهُ. فإِنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فإِنَّهُ يَراكَ»، فالإحسان في العمل، والإحسان في الظاهر، والإحسان في الباطن هو من مراتب الإحسان، الإسلام والإيمان والإحسان ثلاثة مراتب هي من مراتب الدين جاء بيانها في حديث جبريل الذي فيه أن: «بَيْنما نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْد رسولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، ذَات يَوْمٍ إِذْ طَلع عَلَيْنَا رجُلٌ شَديدُ بياضِ الثِّيابِ، شديدُ سوادِ الشَّعْر» وهذه حال المقيم وليست حال المسافر،« لا يُرَى عليْهِ أَثَر السَّفَرِ ولا يَعْرِفُهُ منَّا أَحدٌ» غريبة حاله،«حتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فَأَسْنَدَ رَكْبَتَيْهِ إِلَى رُكبَتيْهِ، وَوَضع كفَّيْه عَلَى فخِذيهِ» أي على فخذ النبي صلى الله عليه وسلم،«وقال: يا محمَّدُ أَخبِرْنِي عن الإسلام فقالَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: الإِسلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأَنَّ مُحَمَّداً رسولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤتِيَ الزَّكاةَ، وتصُومَ رَمضَانَ، وتحُجَّ الْبيْتَ إِنِ استَطَعتَ إِلَيْهِ سَبيلاً. قال: صدَقتَ. فَعجِبْنا لَهُ يسْأَلُهُ ويصدِّقُهُ» يعني مقتضى السؤال أنك ما تدري ولا تعرف فكيف تقول: صدقت، فعجب الصحابة،«قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عن الإِيمانِ. قَالَ: أَنْ تُؤْمِن بِاللَّهِ وملائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ، والْيومِ الآخِرِ، وتُؤمِنَ بالْقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، قال: صدقْتَ » [صحيح البخاري(50)، ومسلم(8)]ستة أصول هي أصول الإيمان.
الآن ذكر أمرين هي الإسلام والإيمان، فما الفرق بينهما؟
الإسلام يتعلق بالعمل الظاهر في القول وفي الجوارح، وأما الإيمان فهو يتعلق بأعمال القلوب الأعمال الخفية، طيب بعد ذلك ماذا قال؟
قال جبريل الذي جاء في صورة هذا الرجل: «قال: فأَخْبِرْنِي عن الإِحْسانِ. قال: أَنْ تَعْبُدَ اللَّه كَأَنَّكَ تَراهُ» هذه أعلى مراتب العبودية، أن يعبد العبد الله -عز وجل- أن تقوم بصلاتك، بصومك، بحجك، ببر والديك، بصلة أرحامك، بأداء واجبك في وظيفتك، بحفظ أمن بلدك، بأداء الحقوق الخاصة والعامة وأنت مستحضر أنك ترى الله جل في علاه، لا يعني أنك تمثله فالله ليس كمثله شيء، ولا أن تتخيل له صورة كأنك تراه يعني حال تعمل حال الذي يرى من يعمل له، بالتأكيد أنه سيكون العمل في إتقانه وجودته وطيبه وإظهاره على أكمل وجه بصورة مختلفة عما إذا كان المعمول له غائبًا غير حاضر.
لذلك أعلى مراتب الدين أن تعبد الله كأنك تراه. طيب إذا قصر يقين الإنسان وضعف عن هذه المرتبة؟
فالمرتبة الدنيا من مراتب الإحسان، وليس في الإحسان دنو، المرتبة الثانية في مراتب الإحسان: أن تعبد الله وأنت مستحضر أنه يراك فإن لم تكن تراه فإنه يراك، يراك أي يعلم بحالك وليس المقصود به الإبصار فقط، ولا المظهر والشكل إنما النظر إلى الظاهر والباطن «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ »[صحيح مسلم(2564)]، فكان من المهم للعبد أن يستحضر هذا المعنى ليتقن العمل، فإن استحضارك أن الله يسمعك، يراك، يعلم بحالك ظاهرًا وباطنًا، يخبرك؛كل هذه تقتضي إجلالًا لله عز وجل وتعظيمًا له.
وإذا أيقنت بأن الله يعلم حالك، يسمع مقالك، يرى أحوالك، انقدح في قلب المؤمن الحياء، الله أكبر! والحياء شعبة من شعب الإيمان كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسبْعُونَ، أوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شَعْبَةً: فَأفْضلُهَا قوْلُ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، وَأدْنَاهَا إمَاطَةُ الأذَى عنِ الطَّرِيقِ، وَالحيَاءُ شُعْبةٌ مِنَ الإِيمانِ»[صحيح البخاري(9)، ومسلم(35/58)]، إماطة أي إزالته، الحياء من الله هو أن تستحيي أن يراك على ما يكره، وأما إذا خلا القلب من تعظيم الله، إذا خلا القلب من محبته، إذا خلا القلب من معرفته، فإنه لا يستحيي ويكون كأولئك الذين قال فيهم تعالى: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾[النساء:108]، فتجده يتوارى عن الناس ليفعل السوء والشر، لكنه لا يبالي أن رب الأرض والسماء، أن الله الذي يعلم السر وأخفى ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور يراه، فعند ذلك يتهوك فيه ويتورط في أنواع الإساءة؛ لأنه غاب عنه أن الله عالم بحاله.
لا تخفى عليه حال العبد في شأن من شئونه أو حال من أحواله، المؤمن إذا امتلأ قلبه يقينًا بأن ربه -جل في علاه- عليم كان هذا مثمرًا الطمأنينة والرضا بأقدار الله عز وجل، لذلك يقول الله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾[الحديد:22]، ثم يأتي التسلية والثمرة لليقين بالعلم بأن الله قدر الأشياء قبل وقوعها، وأنه ما في شيء إلا بقضاء وقدر، وأنه قد علمه وكتبه وشاءه وقدره تأتي الثمرة ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾[الحديد:23].
إن اليقين بعلم الله تعالى للأمور كلاه قبل وقوعها، وأنه قد كتبها يثمر في القلب طمأنينة إزاء أقضية الله وأقداره وأنه -جل في علاه- لا يقدم لعبده إلا الخير.
إن من ثمار اليقين بأن الله عليم أن يرضى الإنسان بتشريع رب العالمين، ويقرَّ قلبه بكل ما في هذا الكتاب الحكيم من الأحكام، فلا تجده معارضًا لحكم من أحكام الله عز وجل؛ لأنه يعلم أنه تشريع الحكيم الخبير، أنه ناتج عن علم وخبرة وحكم عادل لا مصلحة فيه إلا للعباد والخلق ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾[الملك:14].
ولهذا يختم الله تعالى كثيرًا من آيات الأحكام بقوله: العليم الحكيم، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[الممتحنة:10]، تقر القلوب وتطمئن عندما تعرف أن ربها حكيم، وأن ربها عليم، وأن هذا التشريع صادر عن هذا الموصوف بهذه الصفات.
القلوب تطمئن وتبتهج وترجو ما عند الله -عز وجل- كلما أيقنت أن ربها عليم، لأنها تأمن أن يأتيها شر أو ضرر إلا بقضاء الله وقدره، وأن الله ما يقدمه له إنما هو خير له ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾[الأنبياء:35].
إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم [فادعوه بها]، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.