السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، أحمده حق حمده له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، له الأسماء الحسنى والصفات العلا، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة تركنا على محجة بيضاء، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد...
فأهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم [فادعوه بها].
إننا توقفنا في حلقة سبقت مع اقتران اسم العليم ببعض أسماء الله عز وجل، وإن اسم الله تعالى العليم من أكثر الأسماء اقترانًا بغيره من أسماء الله تعالى، فقد جاء مقترنًا بالعزيز، وبالحكيم، وبالخبير، وبالقديم، وبالفتاح كما قال -جل في علاه-: ﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ﴾[سبأ:26]، قل يجمع بيننا ربنا يعني يوم القيامة هؤلاء المختصمون من المؤمنين وغيرهم من أهل الشرك والكفر، وكل أهل الخصومات يجمع الله تعالى بينهم يوم القيامة، ﴿ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ﴾، الله أكبر. ما الفائدة من اقتران هذين الاسمين؟
الفتاح يدل على أن الله تعالى يفتح كل مغلق، هذا معنى من معاني الفتاح، وأنه جل في علاه يفصل ويحكم ويقضي بين المختصمين، وهذا نوع من الفتح، قل يفتح بيننا ربنا بالحق فهو -جل في علاه- يفتح بين المختصمين بالحق، فيقضي ويفصل بينهم لكن لما جاء مع العليم الذي يدل على كمال الإحاطة، فلا يعزب عنه شيء، ولا يغيب عنه شيء، كان ذلك مفيدًا معنى زائدًا، هذه الآية: ﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ﴾[سبأ:26]، هذه الآية فيها الإخبار عن أن الفتح مقترن بالعلم، والفتح هنا هو الحكم ومعلوم أنه إذا كان الحاكم عالمًا بما يحكم فيه، وبالقضية التي يحكم فيها يعني العلم بما يكون من العدل، وأصول العدل، والعلم بالواقعة والقضية كان ذلك مطمئنًا للمتخاصمين، لماذا؟
لأن المتخاصمين يعرفون أن الحاكم عالم، فلن يظلم، الحاكم مطلع فلا يمكن أن يحكم بجور أو ظلم، لذلك كان هذا الذكر بهذا الاقتران مفيدًا إفادة زائدة فهو فتح سواء أن كان الفتح بفصل القضاء أو ببيان المخارج، لما تأتي لشخص وتقول له: أين الطريق إلى مكة؟ وهو يدرك المخارج والطرق والسبل التي توصل بالتأكيد أنك ستطمئن إلى خبره، ستطمئن إلى دلالته، لكن لما يأتيك عليم لكنه لا يدرك هذه السبل التي توصل أو لا يستطيع أن يوصلك إليها، ولا يستطيع أن ينفذ فإن ذلك يكون مما لا يعطيك طمأنينة، أليس إذا ذهبت إلى قاضي تعرف أنه سينفذ الحكم؟!
هذا يبعث الطمأنينة في القضاء؟ بلى؛ لأنه يعرف أن هذا القضاء ليس قضاء حبر على ورق لا ثمرة له ولا نتيجة بل هو قضاء لينفذ ويُعمل به. كذلك اسمه تعالى [الفتاح العليم] في سياق القضاء يعطي طمأنينة، فهو فتاح سيجعل لكل ذي ضيق وكل مظلوم فرجًا يخرج به من ضيقه، ويتوسع به إلى أخذ حقه.
كما أنه فتاح عليم يدل العباد على ما يوصلهم إلى ما فيه خير الدنيا والآخرة، وهذا هو المعنى الثاني من المعاني التي يدل عليها اسم الفتاح في اقترانه مع العليم، فيشمل فتح كل مغلق من الأسباب كالرزق، والعلم، والهداية، والعمل فإن ذلك شأن الله تعالى الفتاح العليم.
ولهذا كان الاقتران مفيدًا معنى زائدًا على المعنى المستفاد من اسم العليم، والمعنى المستفاد من اسم الفتاح على وجه الانفراد يعني عندما ينفردان ولا يجتمعان.
جاء ذكر اسم العليم مقترنًا بالخلاق ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾[الحجر:86]، قال تعالى: ﴿بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾[يس:81].
إن هذا الاقتران بين صفة الخلق في صيغة المبالغة الخلاق، كثير الخلق، عظيم الخلق لأنها صيغة مبالغة وليست فقط الخالق كما سيأتي إن شاء الله تعالى، يدل هذا على أنه خلق متقن لأنه صنع العليم جل في علاه، كما قال تعالى: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾[النمل:88] سبحانه وبحمده، فيكون الخلق هنا مقترنًا بعلم الله عز وجل، ويكون ذلك دالًّا على كمال الرب سبحانه، وأن علمه ونتاج هذا العلم في الخلق شيء مبهر، شيء يفرق الوصف، يبهر العقول، صنع الله الذي أتقن كل شيء ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾[لقمان:11].
سبحانه وبحمده لا نحصي ثناء عليه، إن اسم العليم جاء مقترنًا باسم الواسع في سبعة مواضع من كلام الله عز وجل، وذاك للدلالة على واسع الفضل والعطاء، وواسع العلم الذي لا حد له، فإن علم الله تعالى ليس له حد بل هو متعلق بكل شيء سبحانه وبحمده.
يقول الله جل في علاه: ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[البقرة:247]، أي وواسع في الفضل يختص برحمته من يشاء، عليم بمن يستحق الملك، عليم بمن يستحق العطاء، عليم بمن يتوجه إليه المن فهو -سبحانه وتعالى- أعلم بالمتقين، وأعلم بالشاكرين، وأعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم بما يصلح حال العباد، وما يكون عونًا لهم على تحقيق الخير في دنياهم، وفي أخراهم.
هذه جملة من الاقترانات، وهذه الاقترانات تبعث الإنسان على تحقيق ما أمر الله تعالى به من قوله [فادعوه بها] فكلما تأمل العبد هذه المعاني التي جاءت في كلام الله عز وجل، كان ذلك باعثًا له على التلذذ بذكر ربه، التنعم بمعرفته، الإقبال عليه؛ لأنها تنشط النفوس لمعرفة قدر الرب الذي لا يقدر الخلق قدره جل في علاه، سبحانه هو الواحد الممجد جل وعلا، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه.
إن تحقيق العبودية لله -عز وجل- بامتثال أمره في قوله: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾[الأعراف:180]،يكون بدعاء الله تعالى باسمه العليم، وقد جاء في السنة النبوية ذكر صفة العلم في مقام الدعاء، دعاء السؤال والطلب في مواضع كثيرة فمنها مثلًا على سبيل المثال: دعاء الاستخارة، فيما رواه الإمام البخاري من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم الاستخارة في الأمور كما يعلمهم السورة من القرآن، وقال لهم صلى الله عليه وسلم: «إِذا هَمَّ أَحَدُكُمْ بالأمر، فَليَركعْ رَكعتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفرِيضَةِ ثم ليقُلْ» أي يصلي ركعتين من النوافل سواء كانت نافلة راتبة، أو نافلة مطلقة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«ثم ليقُلْ» وهنا الشاهد فيما نحن فيه، يقول صلى الله عليه وسلم:«فليقل: اللَّهُم إِني أَسْتَخِيرُكَ بعِلْمِكَ» يعني أطلب الخير، وأسألك أن تدلني على الخير بعلمك، وعلمه -جل في علاه- قد وسع كل شيء، أستخيرك بعلمك، أي أطلب الخير فيما أنا مقبل عليه من العمل، سواء أمضي فيه أو رجع عنه، سواء أن كان العمل وظيفة، أو كان الأمر خطبة، أو كان الأمر مشروعًا أو كان ما كان، أستخيرك بعلمك.
«وأستقدِرُكَ بقُدْرِتك، وأَسْأَلُكَ مِنْ فضْلِكَ العَظِيم، فإِنَّكَ تَقْدِرُ ولا أَقْدِرُ، وتعْلَمُ ولا أَعْلَمُ، وَأَنتَ علاَّمُ الغُيُوبِ».[صحيح البخاري(6382)]
إذًا هو سؤال الذي لا يخفى عليه خافية، تضع الأمر بين يديه جل في علاه سبحانه وبحمده، تجعل الخيرة له، ومن صدق في تفويض الأمر إلى الله فإنه لن يلقى من الله إلا خيرًا،﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾[غافر:44].
هذا نموذج ومثال من أمثلة دعاء الله عز وجل بهذا الاسم، اسم العليم، اسم العلام، اسم العالم في دعاء المسألة والطلب، ودعاء السؤال الذي كل الخلق محتاجون إليه، فكل أحد يحتاج إلى أن يقول: يا الله، غني أو فقير، ملك أو مملوك، صغير أو كبير، كلهم محتاجون إلى أن يقولوا: يا الله، فإذا تذكروا أنه العليم كان ذلك من موجبات صدقه في الإقبال عليه، والطمأنينة إلى أنه جل وعلا سيختار ما يكون خيرًا له.
إن من الأدعية التي وردت في ذكر هذه الصفة، صفة العليم، والعلام، وعالم الغيب ما جاء في السنن من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أنه قال: كان إذا أراد أن ينام يقول صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَواتِ والأرضِ عَالمَ الغَيْب وَالشَّهَادةِ، ربَّ كُلِّ شَيءٍ وَمَلِيكَهُ. أَشْهَدُ أَن لاَ إِله إِلاَّ أَنتَ، وحدك لا شريك له، وأن محمدًا عبدك ورسولك والملائكة يشهدون، اللهم أني أَعُوذُ بكَ منْ شَرِّ نَفسي وشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكهِ، وأعوذ بك أن اقترف على نفسي إثمًا أو أرده إلى مسلم».[أخرجه أبو داود في سننه(5067)، وصححه الألباني]
وهذا من الأذكار التي وردت وإن كان هذا الحديث ورد أيضًا في أذكار الصباح والمساء بصيغة أخرى، لكن المقصود أنه توسل إلى الله تعالى بعلمه، وكذلك ما جاء في حديث أبي هريرة عند ذكره للدعاء الذي قال فيه أبو بكر: يا رسول الله أخبرني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت، فقال له قل: «اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَواتِ والأرضِ عَالمَ الغَيْب وَالشَّهَادةِ، ربَّ كُلِّ شَيءٍ وَمَلِيكَهُ. أَشْهَدُ أَن لاَ إِله إِلاَّ أَنتَ، أَعُوذُ بكَ منْ شَرِّ نَفسي وشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكهِ، ومن أن اقترف على نفسي سوء أو أجره إلى مسلم»، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم:«قُلْها إِذا أَصْبحْتَ، وَإِذا أَمْسَيْتَ، وإِذا أَخذْتَ مَضْجِعَكَ».[أخرجه أبو داود في سننه(5067)، وصححه الألباني]
إن الدعاء باسم الله العليم جاء في موارد عديدة من السنة النبوية، وهذا مما يؤكد أن هذه الأسماء يتحقق الدعاء بها دعاء الله تعالى بها هو أن تُذكر في الدعاء، وأن تُستحضر معانيها، فقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أصبح: «بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لاَ يَضُرُّ مَع اسْمِهِ شيء في الأرضِ ولا في السماءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعلِيمُ»[سنن ابن ماجه(3869)، وصححه الألباني في صحيح الجامع(11372)] قال صلى الله عليه وسلم: من قاله ليلًا ثلاثًا لم تصبه فاجئة بلاء حتى يصبح، ومن قاله حين يصبح ثلاث مرات لم تصبه فاجئة بلاء حتى يمسي.
وفي دعاء الكرب الذي جاء في الصحيحين من طريق أبي العالي العباس رضي الله عنه وهو في صحيح البخاري بلفظ: «لا إِلَه إِلاَّ اللَّه العليمُ الحلِيمُ»[صحيح البخاري(7426)] وهذا في بعض روايات صحيح البخاري، وإن كان جاء بلفظ:«لا إِلَه إِلاَّ اللَّه العظِيمُ الحلِيمِ»[صحيح البخاري(6345)]، هنا في هذه الرواية التي رواها البخاري كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الكرب: «لا إِلَه إِلاَّ اللَّه العليمُ الحلِيمُ»، هذا من الاقترانات التي تكون في الدعاء بين أسماء الله عز وجل وصفاته.
إن المؤمن يدعو الله تعالى دعاء مسألة وهو من أعظم ما يظهر الافتقار إلى الله عز وجل؛ لأنه افتقار لسان، وافتقار قلب، فليحرص في دعاءه أن يكثر من ذكر أسماء الله عز وجل، فإنه لم يتقرب أحد بشيء أفضل من الثناء على الله تعالى في مقام الافتقار والدعاء، لهذا من المهم أن نحرص في دعائنا أن نستكثر من ذكر الأسماء، وأن نذكرها على وجه مناسب فلا يقول القائل مثلًا: يا جبار أهدني، أو يا جبار ارزقني، هذا غير مناسب وإن كان قد يُلتمس معنى من المعاني لكن المناسب هو أن تقول: يا رزاق أرزقني، يا رحمن أرحمني، يا غفوا أغفر لي، وما أشبه ذلك، ولا تقال على وجه الذكر للأسماء دون تدبر معانيها، فلما تقول: يا عليم خر لي الخير كما في حديث الاستخارة: «أَسْتَخِيرُكَ بعِلْمِكَ»وأنت ممتلئ القلب بأن الله عالم كل شيء، وأنك تفوق الأمر لهذا العالم الذي يعلم وأنت لا تعلم وهو علام الغيوب أي علام المستقبل؛ لأنك تستخير في الحاضر وفي المستقبل إن كان خيرًا فيسره لي وبارك لي فيه، وإن كان غير ذلك فاصرفه عني واصرفني عنه، وأقدر لي الخير حيث كان.
من المهم وجربوا لا يحرم الإنسان نفسه ولو بالتجربة أن يجمع الإنسان قلبه في دعاءه على تأمل معاني الأسماء، التفكر في أسماء الله عند ذكرها في الدعاء، فإن هذا قد يوصلك إلى مرتبة عالية وهي ما جاء فيما رواه أصحاب السنن وأحمد:«مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ»[أخرجه البيهقي في شعب الإيمان(567)، وضعفه الألباني في الضعيفة(4989)]، فتشتعل بتدبر أسماء الله عن حاجتك فيكون الله تعالى لك أعظم مما تؤمل، أعطيته خير ما أعطي السائلين.
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، أسلك بنا سبيل الرشاد، أرزقنا يا ذا الجلال والإكرام فقه كلامك وفقه أسمائك وصفاتك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم [فادعوه بها]، استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.