السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده حق حمده لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، له الأسماء الحسنى والصفات العلا، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، لا إله إلا الله الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق داعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا، بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد...
فأهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم [فادعوه بها]. إن الله تعالى ذكر أسماءه الحسنى في كتابه منفردة ومقرونة بغيرها من الأسماء، ومن توفيق الله تعالى للمؤمن أن يتأمل ما في هذه الاقترانات من دلالات، فإن الله تعالى عندما يذكر اسمًا مع اسم آخر يكون هناك كمال زائد ومعنى فاضل على ما إذا كان هذا الاسم منفردًا، وهذا ينبغي أن نؤكد عليه لأن به تنفتح أبواب التدبر، يدرك من أسرار الكلام الإلهي ما يزيد به إيمانه، وتقرُّ به عين، ويطمئن به قلبه، ويصلح به عمله، فإن كل الهدى مأخوذ من هذا القرآن، وبديع ما فيه من الحكم والأسرار.
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾[الإسراء:9]،هكذا يقول ربنا -جل في علاه، اسم الله تعالى [العليم] جاء مقترنًا بأسماء عديدة في كتاب الله عز وجل لعله من أكثر الأسماء اقترانًا بغيره من أسماء الله عز وجل، فجاء مقترنًا بالحكيم، وتكلمنا عن ذلك فيما مضى، وجاء مقترنًا بالعزيز في مثل قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾[يس:38]-، واقتران العلم بالعزة يدل على أن هذا العلم علمٌ لا يُضاهى، علمٌ لا يُرام جنابه، علمٌ لا يُماثل، علمٌ يقتضي أن يكون ما تضمنه أو ما أراده في علمه جل في علاه.
فالعلم عندما يكون مع الضعيف يكون غير فاعل، وغير نافع، وغير مفيد الفائدة الكبرى، لكن عندما يكون العليم عزيزًا فهذا يُلقي على القلب تعظيمًا وإجلالاً، وأن هذا العلم علمٌ يُثمر ثمرة، وينتج آثارًا، وليس علمًا مجردًا لا أثر له ولا ثمر، فالله تعالى يقول: ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾[يس:38]، وذكر التقدير لأنه ثمرة هذا العلم، وهو نافذ لا يمكن أن يتخلف، لا معقب لحكمه.
فمن كان تقديره صادرًا عن علم وعزة لابد أن يقع، لابد أن يكون، لابد أن يحصل كما قال -جل في علاه-: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[يس:82]، إن الله -جل وعلا- ذكر اقتران اسم العلم بالسمع، وهنا نعلم أن الذين يقولون في اسم الله عز وجل السميع بأنه الذي يعلم، وينفون عنه صفة السمع يخطئون؛ لأنه لو كان السمع هو العلم فما فائدة قرن السمع بالعلم في كلام الله عز وجل، جاء في أكثر من ثلاثين مرة، وفي أكثر من ثلاثين موضعًا، كل ذلك لتقرير هذا المعنى العظيم وأن السمع والعلم صفتان من صفات الله تعالى ليس واحد منهما يُفسَّر بالآخر، بل العلم له أسباب كثيرة منها السمع، ومنها البصر، ومنها أسباب كثيرة تُدرك بها المعلومات.
لكن السمع هو طريق من طرق العلم، ولهذا يذكر الله تعالى السمع والعلم في آيات الذكر الحكيم لكون ذلك دالا على أن علمه ليس مجردًا عن بينات وشواهد، ولا مجردًا عن ما يعزز ذلك العلم، ويقيم الحجة به على العباد والخلق، فالله تعالى سميع عليم، وفي ذلك تطميع للنفوس أن لا تُغفل جانب هذه الصفات فإن الله سميع.
ولذلك إذا قال العبد: يا الله، يا رب، فإن الله يسمع قوله كما أنه يعلم ما في سره، فليس العلم مقتصرًا ومحدودًا بالسمع فقط، أو ليس له طريق إلا السمع بل إنه علم يكون بالسمع على وجه الخصوص الذي لا يغيب عنه شيء، ويكون بالعلم الذي يدرك الله تعالى به ما يشاء من المعلومات دون أن يكون ذلك مقصورًا على طريق من الطرق أو سبيل من السبل.
إن صفة العلم جاءت مقترنة بالشكر، كما قال الله تعالى في آية الصفا: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾[البقرة:158]سبحانه وبحمده، وقال تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾[النساء:147]، وانظر في ذكر الشكر والعلم في مقام المجازاة على العمل، في مقام الإثابة عليه، فالله تعالى شاكر لا يضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى فهو يجزي على القليل الكثير سبحانه وبحمده، لكن هذا الجزاء متفاوت، أليس كذلك!
ليس كل العاملين على درجة واحدة في الجزاء والإثابة، يُصلي المصلي ولا يُكتب له من صلاتها إلا عشرها، إلا تسعها، إلا ثمنها، إلا سبعها، إلا سدسها، إلا خمسها[أخرجه أبو داود في سننه(796)، وأحمد في مسنده(18894) بسند صحيح]... وهلم جرا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، كل هذا التفاوت سببه ماذا؟
سببه أن الله عليم، فهو يجزي ويُعطي جل في علاه، لكنه جزاء يتفاوت فيه العاملون وفق ما يكون في قلوبهم مما يطلع عليه رب العالمين جل في علاه.
فالله سبحانه وبحمده يبشِّر كل عامل بأنه لا يضيع عمله ظاهرًا كان ذلك أو باطنًا، فهو الكريم المنان جل في علاه الذي يحصي على العباد الدقيق والجليل ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾[آل عمران:195]، فلذلك ينبغي أن يجود العمل، وأن نصلحه، وأن لا نقتصر فقط على صورة ظاهرة فالثواب والأجر ليس على ظاهر الأعمال، بل على حقائقها وما يقوم في القلوب، وما يستقر في الأفئدة من صدق الرغبة والإخلاص لله جل وعلا.
قد يقول القائل: تستوي الصور في العمل، نعم تستوي الصور في العمل فالمصليان يصليا في مكان واحد لكن بينهما من الفضل والأجر كما بين السماء والأرض في الفضل والرجحان، والإثابة والعطاء، السبب؟
ما ذكره الله تعالى في محكم كتابه: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾[الأنعام:53]بلى والله هو أعلم، وقد قال الله تعالى لعباده حتى يقطع عليهم طريق الإجلال بأعمالهم ، والمن عليه بما يكون من صور الأعمال:﴿فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾[النجم:32].
إذًا اقتران اسم العليم باسم الشاكر له دلالة إضافية على دلالة اسم الشاكر منفردًا، واسم العليم منفردًا، فهي أفادت أن الإثابة ستكون مختلفة عما لو كانت إثابة مستقلة عن العلم، هي إثابة العليم، هو شكر العليم -جل في علاه- الذي لا يضيع العمل ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ﴾[لقمان:16] سواء أن كانت صالحة أو كانت سيئة، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه[7]وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾[الزلزلة:7-8].
فلذلك ينبغي للمؤمن أن يجود العمل، وإذا قرأ: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾[الأنعام:53] فليجتهد أن يكون شاكرًا لله -عز وجل- في ظاهره وفي باطنه، فإن الله -سبحانه وبحمده- لا تخفى عليه من عباده خافية.
إن اسم العليم جاء مقترنًا أيضًا باسم الحليم في مواضع عديدة، ومنها قول الله تعالى في آيات المواريث: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾[النساء:12]، وقد قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا﴾[الأحزاب:51]، وقال -جل وعلا-: ﴿لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾[الحج:59]، فجمع الله تعالى بين هذين الوصفين.
وهذا فيه بيان أمر مهم أن الإسراف في المعاصي ليس لعدم علم الله تعالى بحال العاصين، بل لأجل حلمه كما قال -جل في علاه-: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾[إبراهيم:42]، وهذا ليس فقط في ظلم العباد وانتهاك حقوقهم بل في كل أوجه الظلم سواء كان ظلمًا في حق الله -عز وجل- بالشرك به، أو النفاق، أو المعصية، أو كان ذلك في حق العباد ببخس حقوقهم، وعدم أداء ما يجب لهم كأن يظلم الرجل زوجته، أو يظلم والده بالعقوق، أو ولده بعدم القيام بشأنه، أو جاره ببخسه حقوقه وعدم إكرام الجار والقيام بما يجب له، أو غير ذلك من أوجه الظلم، ويدخل فيه ظلم الحاكم للمحكوم، أو ظلم الناس فيما بينهم في المعاملات المالية وفي الدماء.
وكل هذا يدخل في قول الله تعالى: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ﴾[إبراهيم:42]فهو لا يعاجل بالعقوبة جل في علاه بل يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، لذلك اقتران هذين الاسمين في آيات الله عز وجل فيها التحذير، فيها التخويف، فيها التنبيه، إلى عدم الاغترار بالإملاء، عدم الاغترار بالإمهال بل الله حليم جل في علاه، ومن حلمه أنه لا يعاجل بالعقوبة، لكن حلمه لا ينافي علمه سبحانه وبحمده.
إن مما ينبغي للمؤمن أن يعرفه أن هذه الاقترانات تزيد في الإيمان، تعطي بصيرة، تفيد إفادة كبيرة في معرفة معاني هذه الأسماء والتعرف على الله تعالى.
من الأسماء التي جاء العليم مقترنًا بها سمه جل وعلا (الخبير)، فإن الله قد قال في محكم كتابه: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾[النساء:35]، وعندنا تُذكر الخبرة مع العلم، صفة الخبرة مع صفة العلم تضيف إضافة زائدة؛ لأن العلم ليس مقتصرًا على الظواهر، بل إنه ممتد شامل للخفايا والدقائق والبواطن فلا يخفى عليه شيء سبحانه وبحمده من شأن عباده، ولذلك ينبغي أن يحذر الإنسان أن يقتصر على صلاح ظاهره بل الأمر وراء ذلك في صلاح الباطن الذي تدركه خبرة الله تعالى، وعلمه ببواطن الأمور وخفاياها.
إن اسم العليم جاء مقترنًا بالقدير في مثل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾[النحل:70]، وعندما تقترن صفة العلم بالحكمة يكون هذا زائدًا أنه علم له ثمرة، علم له فائدة، علم له أثر، علم له نتيجة وليس علمًا مجردًا لا أثر له ولا ثمر. ومما جاء فيه وصف العليم مقترنًا في كتاب الله تعالى باسم آخر باسم [الفتاح] نسأل الله تعالى أن يفتح لنا أبواب رحمته، وأن يعيننا على طاعته، وأن يجعلنا من أوليائه وحزبه، قال تعالى: ﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ﴾[سبأ:26].
وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم [فادعوه بها]، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.