السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين، أحمده حق حمده، له الحمد كله أوله وآخره، ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد...
فأهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم [فادعوه بها].
لازلنا نتحدث عن أسماء ثلاثة من أسماء الله عز وجل هي [القدير، والقادر، والمقتدر] هذه الأسماء الثلاثة ذكرها الله تعالى في كتابه، وجاء (المقتدر) مقترنًا في ذكره باثنين من أسماء الله عز وجل، وجاء (القدير) كذلك مقترنًا ومنفردًا، وجاء (القادر) منفردًا في آيات عديدة من كلام الله عز وجل.
يقول الله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾[الأنعام:65]، ويقول -جل في علاه-: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾[الروم:54]، ويقول -جل في علاه-: ﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ﴾[القمر:42].
الآيات الكريمات ذكرت هذه الأسماء وقد ذكرت الآيات الكريمات أسماء عديدة من أسماء الله عز وجل، ولها في ذكر أسماء الله عز وجل طريقان:
- الطريق الأول أن تُذكر الأسماء منفردة دون أن تقترن باسم من أسمائه، وقد ترد الآيات بذكر اسمين مقترنين، كل أسماء الله في انفرادها واقترانها تدل على كماله جل وعلا لكن ما الفرق بين مجيء الاسم منفردًا، وبين مجيء الاسم مقترنًا؟
الفرق أنه في حال الانفراد تدل على كمال، وفي حال الاقتران تدل على كمال مستفاد من الاسمين جميعًا، فعندما يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[البقرة:20]، هل هو في إثبات الكمال كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾[الروم:54]؟
الجواب: لا، بينهما فرق في إثبات الكمال لله -عز وجل- في هذه الصفة، ولهذا ينبغي لكل ذي نظر يأمل في أن ينتظم في سلك أولياء الله المتدبرين لكتابه، الذين يقرؤون القرآن قراءة تدبر وتأمل، أن يلحظ هذه الأسماء عندما ترد منفردة وعندما ترد مقترنة، فإنها تدل دلالات يفتح الله تعالى بها قلوب أوليائه، ويوقفهم على بديع نظام كتابه، وأسرار هذا الكتاب المبين التي تطيب بها القلوب، ويعمق بها الإيمان، ويصلح بها العمل.
أنا أدعو نفسي وإخواني إلى ضرورة العناية بهذه الأسماء إذا جاءت مقترنة، وبهذه الأسماء إذا جاءت منفردة، فإن اقترانها يفيد معنى زائدًا على معنى انفرادها.
لنقف مع هذه الأسماء وننظر كيف جاءت مقترنة في كلام الله عز وجل، وكيف جاءت منفردة؟
نبدأ باسم (القادر) وهو اسم من أسماء الله عز وجل ذكره الله تعالى منفردًا في موارده في كتابه الحكيم، لكن الملاحظ في هذا الاسم أنه يُذكر عندما يُذكر الخلق كما قال تعالى: ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾[القيامة:4]، ويُذكر في مقام المؤاخذة والعقوبة﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾[الأنعام:65]، وهذه الاقترانات تدل على أن هذا الاسم له خصوصية في هذه الأحوال، فالله تعالى يذكر هذا الاسم عند الخلق، ويذكره عند إنزال العقوبة، ويذكره أيضًا عند إنزال الوحي فيقول تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾[الأنعام:37].
وكذلك ذكره الله تعالى في إحياء الموتى فقال:﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾[القيامة:40]، وكل هذه المعاني تدل على أن هذا الاسم يرد غالبًا في مقام التحدي، وفي مقام الرد على الخصوم، وفي مقام مقارعة الذين يشككون في قدرته، والذين يكذِّبون رسله، ويحادون شرعه، وينالون مما جاءت به الرسل.
هذا التلمس يُمكن أن يستفاد من سياق هذا الاسم في كلام الله جل وعلا.
أما اسم القدير فقد جاء منفردًا في مواطن عديدة من كتاب الله عز وجل، وجاء مقترنًا بأربعة أسماء، جاء مقترنًا بالعليم، كما في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾[الروم:54]، وجاء مقترنًا بالعفو كما في قوله تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾[النساء:149]، وجاء أيضًا مقترنًا بالغفور الرحيم كما في قوله -جل وعلا-: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[الممتحنة:7].
هذه الأسماء الشريفة ثلاثة منها متقاربة في دلالتها، وأما أحدها فهو منفرد عنها في الدلالة فاسم العليم اقترانه بالقدير يضيف معنى على القدرة بأن هذه القدرة ليست قدرة مطلقة عن حكمة، وليست قدرة مجردة عن علم، فإن الجاهل قد يكون قديرًا فتكون قدرته نقصًا؛ لأنها ستحمله على فعل ما لا يصلح، لكن القدرة التي اتصف الله تعالى بها، واقترن ذكرها بالعلم هي قدرة دالة على أنه يضع الأمور مواضعها، وأن هذه القدرة لا تنافي علمه بل هي وفق حكمته وعلمه جل في علاه.
وأما مجيء القدرة وصف القدير مع العفو فذاك أن أكمل ما يكون العفو في صوره وأحواله عندما يكون من قدير، ولهذا قال عمر بن عبد العزيز: "ما أُضيف شيء إلى شيء أحسن من علم إلى حلم، ومن عفو إلى قدرة" أي أن الله تعالى عندما يعفو فإنه لا يعفو عن ضعف، ولا عن عجز، ولا عن حاجة بل يعفو وهو القدير، وهو الذي كمل في قدرته جل وعلا، يعفو عن زلات العباد وذنوبهم العظيمة فيسدل عليهم ستره جل في علاه، ويتجاوز عنها ويصفح ويرحمهم بقبول توبتهم من ذنوبهم إذا تابوا إليه جل في علاه، وهذا من أسرار اقتران القدير باسمه العفو والغفور والرحيم، فالعفو هو الذي يتجاوز عن الذنب ويستره، كذا الغفور هو الذي يصفح الذنب ويتجاوز عنه، وأما الرحيم فهو الذي يوصل الخير إلى عبده وذاك بقبول توبته إذا تاب، وبإيصال الخير له إذا آب إلى ربه جل في علاه.
أما المقتدر فلكونه هو أبلغ هذه الأسماء الثلاثة في إثبات صفة القدرة لله عز وجل، فإنه يقترن بأسماء العزة، وبأسماء الملك، ولهذا قال تعالى في محكم كتابه: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾[القمر:55]، فاقترن باسم المليك، واقترن أيضًا باسم العزيز في قوله تعالى فيما ذكره من عقوبة آل فرعون ﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ﴾[القمر:42].
إذًا هذان الاسمان المقترنان بالمقتدر هو لكون الاقتدار هو الغاية في القدرة، ولا تكون الغاية في القدرة إلا لمن كانت له العزة التامة الكاملة، ولمن كان له الملك الذي لا ينازع فيه جل في علاه.
ومن هنا نعلم أن هذه الاقترانات زادت بيان وتجلية معنى هذه القدرة، وأنها قدرة على أكمل ما يكون في وصف رب العالمين، ليس فيها نقص، ولا فيها عيب، ولا يتخللها ما ينزه الرب -جل وعلا- عنه بل هي كاملة فيما يتعلق بثبوت أصل هذه الصفة، وفيما ينتج عن هذه الصفة من أقضيته وأقداره سبحانه وبحمده.
المؤمن الذي يمتلئ قلبه يقينًا بأن ربه عفو قدير، لا يتردد في أن يقبل عليه ويعلم أنه قادر على أن يحول حاله من سوء إلى خير، المؤمن الذي يعلم أن ربه عفو رحيم، ويقرأ اقتران القدرة بالرحمة في كلام الله عز وجل سيقبل على الله عز وجل ويقول: سيرحمني وهو قادر على إيصال مقتضى الرحمة إلي، المؤمن الذي يعلم بأن الله تعالى عليم قدير، سينشرح صدره لعظيم قدرة ربه وأنها قدرة لا تخرج عن حكمته بل هو فعال لما يريد جل في علاه، وهو الذي يفعل ذلك وفق حكمة بالغة، كما قال -جل في علاه-: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾[الإنسان:30]، والمشيئة صادرة عن القدرة وعن القدر، وهو مقيد بالعلم والحكمة كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾[الروم:54]، فيطمئن قلبه وينشرح أن ربه -جل في علاه- لا يضع هذه القدرة إلا في مواضعها المناسبة ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾[القصص:68]
الله أعلم حيث يجعل رسالته، وهو أعلم بالمهتدين.
فلا ينزعج من هذه القدرة العظيمة التي قد توصل إليه شيئًا يضره لأنها قدرة العليم الذي لا يتخلل قدرته -جل وعلا- نقص ولا جهل ولا ظلم ولا شيء مما يحذره الناس، ثم عندما يعلم أن ربه -جل في علاه- مليك فإنه سيطمئن أن كل ما يسأله الله عز وجل فهو قادر عليه، مالك له، فيطمئن قلبه في سؤال ربه والإقبال عليه، والأمل في جزائه وثوابه.
لذلك ذكر الله تعالى ذلك في مقام الوعد بالعطاء الجزيل ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾[القمر:55]، لن يذهب ويطلب هذا ويأخذه من أحد بل هو المليك الذي يملك كل شيء جل في علاه، مقتدر فاجتمع له وصف الملك والقدرة اللذين بهما يصل المطلوب، ويُنجز الوعد.
وأيضًا في مقام المؤاخذة قال: ﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ﴾[القمر:42]، وهذا يوجب للقلب خوفًا أن يقع في مخالفة الرب، فيكون ذلك سببًا موجبًا لعقوبته سبحانه وبحمده، فإنه العزيز الذي لا يرام جنابه جل في علاه، وهو مقتدر يبلغ بقدرته كل شيء، فهو ذو القدرة الشاملة النافذة التي لا يقوم لها شيء من خلق الله، بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع.
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شرَّ أنفسنا، وارزقنا البصيرة التي تنير قلوبنا، وتهدي أعمالنا، وتصلح شأننا، وتصلح بالنا، وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم [فادعوه بها] أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.