الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، له الحمد كله، لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد..
فأهلًا وسهلًا مرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة من برنامجكم [فادعوه بها].
أثبت الله تعالى لنفسه الكمالات في كتابه، ومن تلك الصفات التي أخبرها، ومن تلك الصفات التي أثبتها وأخبر بها في كتابه صفة القدرة، وذكر الله تعالى هذه الصفة بثلاثة أسماء من أسمائه: [القادر، والقدير، والمقتدر]، وكلها تدل على كمال ما لله -عز وجل- من هذه الصفة،
وهو القدير وليس يُعجزه إذا ما رام شيئًا قط ذو السلطانِ
فهو -جل في علاه- الذي له السلطة المطلقة، والملك التام الذي لا ينازعه فيه أحد، فلذلك كانت قدرته نافذة على كل أحد، لا راد لما قضى، ولا معقب لما حكم به، سبحانه وبحمده لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى.
إن الأسماء التي أخبر الله تعالى في صفة القدرة أسماء متقاربة من حيث معناها، لكنها متفاوتة من حيث دلالتها، فالقادر يدل على إثبات صفة القدرة، والقدير يدل على أنها قدرة عظيمة، والمقتدر يدل على بلوغ الغاية في تلك الصفة وأنها صفة عظيمة جليلة لله -عز وجل- تستوعب كل شيء كما قال -جل وعلا-: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[فاطر:1]، كما قال -جل وعلا-: ﴿فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ﴾[المرسلات:23]، فقدرته -جل في علاه- لا يقف لها شيء سبحانه وبحمده، هو مالك الملك جل في علاه.
والمؤمن يؤمن بهذا، وأن ربه -جل وعلا- على كل شيء قدير، وأن قدرته بها وجدت هذه الموجودات، فلكمال قدرته –سبحانه وبحمده- أوجد الموجودات، وبقدرته دبرها سبحانه وبحمده، وبقدرته سواها، وبقدرته جل في علاه أحكمها، وبقدرته يحيي ويميت، وبقدرته يبعث العباد للجزاء، وبقدرته يوصل الأرزاق للعباد في ساعة واحدة على تشتتهم واختلافهم وتباعدهم واختلاف أحوالهم، بقدرته جل في علاه يجزي المحسنين على إحسانهم، وبقدرته -جل في علاه- يجزي المسيئين على إساءتهم، وبقدرته إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون، كما قال -جل في علاه-: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[يس:82]، وبقدرته -جل في علاه- يقلب القلوب ويصرفها كيف شاء، كما قال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾[الأنفال:24] الله أكبر.
الله أكبر !لا إله إلا هو ما أعظم صفات ربنا، وما قدروا الله حق قدره، إن قدرة الله تعالى لا يخرج عنها أحد من الخلق مهما عظم قدره، ومهما كبرت قوته فإنه لا يخرج عن قدرة الله جل في علاه، هذه الجن تقول: ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا﴾[الجن:12]، فالله تعالى يخبر عن الجن أنهم أيقنوا إيقانًا جازمًا أنهم لن يعجزوه في الأرض، وأنهم لن يعجزوه هربًا وانفكاكًا من تقديره جل في علاه.
والله تعالى لما ذكر عقوبته لمن عاقبهم قال: ﴿أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾[هود:20]، ويقول: ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ﴾[العنكبوت:22]، فقدرة الله تعالى نافذة لا يقف لها شيء، ولا يحول بينها وبين بلوغ المقدور شيء، بل الله يسوق الأقدار إلى آجالها فما قضاه الله تعالى، وما أبرمه جل في علاه لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه سبحانه وبحمده.
إن قضاء الله تعالى وقدره هو فرع من الإيمان بقدرته جل في علاه، ولهذا كان تفسير الإمام أحمد -رحمه الله- للقدر بأنه قدرة الرحمن وقد استحسن ذلك ابن عقيل من الإمام أحمد رحمه الله وجعله دالًا على عظيم فقهه، وكبير معرفته رحمه الله.
والقدر أصل من أصول الإيمان، لا يتم إيمان أحد إلا به، فإنه إذا تم الإيمان بالقدر كمل أصول الإيمان التي بها يستقيم اليقين ويصلح العقد، ولذا لابد أن يُعلم أن هناك ارتباطًا بين القدر وصفة القدرة، وأن من تمام الإيمان بقدرة الله الإيمان بأقداره، فحقيقة القدر الذي حار الورى في شأنه هو قدرة الرحمن.
إن القدر جاء إثباته وأنه أصل من أصول الإيمان في كلام الله جل وعلا، قال الله 0
-جل في علاه-: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾[القمر:49]، وكل شيء عنده بمقدار جل في علاه.
وأما في السنة ففي حديث جبريل الذي تضمن بيان الإسلام والإيمان والإحسان، قال صلى الله عليه وسلم لما سأل جبريل عن الإيمان قال: «أن تؤمنَ باللهِ وملائكتِهِ وكتبِهِ ورسلِهِ ولقائِهِ والقدرِ خيرِهِ وشرِّهِ»[صحيح مسلم(8)]، هذا يبين لنا أن القدر لصيق بالقدرة، وأن ذلك أصل من أصول الإيمان، فالإيمان بالقدر هو إيمان بأن الله تعالى على كل شيء قدير.
هنا نحتاج أن نقف إذا كانت هذه الأسماء [القادر، والقدير، والمقتدر] دالة على القدر فنحن نحتاج أن نقف مع القدر، لنعرف ما هو؟ هل هو أصل من أصول الإيمان الستة؟ وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، لا يستقيم إيمان أحد إلا بها وهي أعمال قلبية، منها الإيمان بالقدر وهو أن تؤمن بأن الله تعالى علم الأشياء قبل وقوعها، وأنه -جل في علاه- شاء تلك الأشياء، وأنه قد كتبها قبل المشيئة أنه قد كتبها، وأنه قد شاءها، وأن خلقها، هذه أربعة مراتب لا يستقيم إيمان بالقدر إلا بها
أن تعلم أن الله عالم بالأشياء قبل أن تقع، فما من شيء إلا وقد أحاط الله به علمًا قبل وقوعه ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾[الحديد:22] أي في مكتوب، ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾[الحديد:22] أي من قبل أن نخلقها.
وهذا يدل على أمرين: على العلم السابق، وعلى الكتابة وأن الله قد كتب ذلك العلم، قبل أن يخلق الخلائق، وقبل أن يوجد الخلق، كتب الله تعالى مقادير الأشياء ثم أنه شاء تلك الأشياء، فما من شيء إلا بمشيته، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن سبحانه وبحمده، وهذا من الإيمان بالقدر، والإيمان بأن الله خلق هذه الأشياء فهي خلقه ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾[القمر:49]--ن-فما من شيء إلا خلقه الله تعالى بقدر، فالخلق مرتبة من مراتب الإيمان بالقدر، لا يستقيم إيمان أحد إلا أن يؤمن بأن الله تعالى علم الأشياء قبل وقوعها، وأنه شاءها، وأنه كتبها، وأنه خلقها سبحانه وبحمده، وأصل القدر سر من أسرار الله عز وجل ولذلك يقول الإمام الطحاوي رحمه الله: وأصل القدر سر الله في خلقه، لم يطلع عليه ملكًا مقربًا، ولا نبيّا مرسلًا، والتعمق والنظر في ذلك أي في باب القدر بالمناقشة والمجادلة ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، ولذلك حذر الأئمة من أن يدخل الإنسان عقله فيما يتعلق بمسائل القدر؛ لأن قدر الله تعالى وهو فعل من أفعاله جل في علاه لا يبلغ الناس إدراكه، ولا معرفة كنهه كما هو سائر شأنه سبحانه وبحمده، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الشورى:11].
ولهذا قال الطحاوي -رحمه الله-: "فالحذر كل الحذر من ذلك نظرًا وفكرًا ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه أي عن طلبه، والنظر فيه"[العقيدة الطحاوية(ص6)] كل هذا تأكيد لأنه ينبغي الإيمان بالقدر، وأن لا نخوض فيه مجادلين، فإنه لن نبلغ فيه الغاية والمنتهي، لكن نوقن بأن الله حكم عدل. ولهذا فيما رواه أحمد وغيره من حديث عبد الله بن فيروز الديلمي أنه جاء إلى أبي بن كعب فقال له: إن في نفسي شيئًا من القدر فحدثني حديثًا لعل الله أن يذهبه عني، يعني وقع في نفسه شيء مما يتصل بأقدار الله وأقضيته فطلب أن يحدثه بحديث يزيل ما في نفسه، فجاء إليه بأصل العلاج وهو اليقين بأن الله جل وعلا لا يظلم الناس شيئًا.
فقال: إن الله لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، إن الله لا يظلم الناس شيئًا، هذا معنى قول أبي رضي الله عنه ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾[فصلت:46]، ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾[الزخرف:76]. فاليقين بأن الله لو أوقع العذاب على أهل السموات والأرض لم يعذبهم وهو ظالم لهم، حاشاه «يا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً فَلاَ تَظالمُوا»[صحيح مسلم(2277/55)]، فلا يظلم الله تعالى أحدًا من عباده سبحانه وبحمده.
ثم يقول: ولو أدخلهم رحمهم لكن رحمة الله أوسع لهم، لو أن الله عذب أهل سماواته لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم، ثم قال: وأعلم أنك لن تبلغ الإيمان حتى تؤمن بالقدر، وهذا يبين أن الإيمان لا يتحقق إلا أن يؤمن بالقدر، فلو أن أحدًا أنفق مثل أحد ذهبًا ما تقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر[صحيح ابن حبان(8171)]، والإيمان بالقدر هو الإيمان بما ذكرت من الإيمان بأنه عالم لكل شيء قبل وقوعه، أن الله كتب تلك المقادير قبل حصولها، أن الله شاءها عند وقوعها، أن الله تعالى خلقها فالله خالق كل شيء سبحانه وبحمده.
إن المؤمن يؤمن بهذه الأصول وينشرح قلبه لما جاءت به الأخبار عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فيجد نفسه منقادة إلى الإيمان بأن الله قادر، أن الله قدير، أن الله مقتدر، وأن ذلك كله يثمر إيمانًا بكمال قدرته وشمولها، وسعتها، وعظمتها، وأن الله تعالى قدر الآجال، وقضى الأقضية، فالعبد يستسلم لقضاء الله يؤمن به ويرضى به، والرضا بالقدر جنة الدنيا وبه فوز الآخرة.
وأما السخط على أقدار الله والتأفف منها فذاك يوجب سخط الله تعالى، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، والمطلوب هو أن نكون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث صهيب: «عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ».[صحيح مسلم(2999/64)]
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، منَّ علينا باليقين وارزقنا يا ذا الجلال والإكرام راسخ الإيمان والعلم، وإلى أن نلقاكم في الحلقة القادمة من برنامجكم [فادعوه بها]، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.