السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، له الحمد كله أوله وآخره، ظاهره وباطنه، لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا هو مالك الملك، لا إله إلا هو الحميد المجيد، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن أتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد...
فأهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم [فادعوه بها].
لازلنا مع اسم عظيم من أسماء الله -عز وجل- فإنه اسم [الصمد] ذاك الاسم الذي جاء في ثنايا سورة نسب الرحمن، صفة الرحمن التي يحب الله من أحبها، كما جاء في الصحيح من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلًا مع أصحابه فكان يصلي بهم، فكان إذا فرغ من قراءته في كل ركعة ختمها بقراءة سورة الإخلاص: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [1] اللَّهُ الصَّمَدُ[2] لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ[3] وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾[الإخلاص]، ثم يركع، فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد فعل إمامهم شيئًا لم يعهدوه من النبي صلى الله عليه وسلم، ذكروا له ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سَلُوهُ لأِيِّ شَيءٍ يَصْنَعُ ذلكَ؟»، فقال رضي الله عنه في بيان سبب هذا الفعل قال: «لأنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا»أي هذه السورة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّه تعالى يُحبُّهُ»[صحيح البخاري(7375)، ومسلم(813/263)]، يا له من فضل عظيم! وعطاء جزيل! وكرم لا منتهى له من الكريم الحميد المجيد الذي يعطي على القليل الكثير.
عبد يقرأ بهذه السورة لأنها صفة الرحمن، ويحبها لأنها تبيِّن ما لله من كمال، فيكون الجزاء أن رب العالمين يحبه بشهادة وخبر من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، فهل نحن نحب هذه السورة؟
إنه لن يحبها أحد لا يدرك معناها، لا يعرف ما فيها من جميل المعاني وبديع الأسرار التي تجذب القلوب إليها، وبها يُفهم لماذا خُصت هذه السورة بهذا الفضل، وهذا التخصيص أنها تعدل ثلث القرآن، سورة من آيات محدودة ومعدودة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾آية،﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ثانية، ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ثالثة، ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾رابعة، أربع آيات تعدل ثلث القرآن.
هذا الفضل وذاك الاصطفاء من رب العالمين ليس اصطفاء لا معنى له، لا يختار الله شيئًا إلا لحكمة ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾[القصص:68]، وأن الله اصطفى هذه السورة وخصها بهذا الفضل العظيم أن كانت تعدل ثلث القرآن لأنها تبين صفة الرحمن، لأنها تكشف للناس ما لله من كمال سبحانه وبحمده، فالله أحد لا نظير له ولا مثيل، ولا كفء ولا نِدَّ ولا شبيه، وهو المتفرد بالكمالات سبحانه وبحمده، وهو الصمد جل في علاه الذي كمل في كل فضل وشرف، وفي كل سؤدد ومعنى كريم فله الكمال في كل صفاته فلم يثبت صفة له إلا وله أعلاها ومنتهاها وغايتها وكمالها، لذلك هو الشريف جل في علاه الذي كمل شرفه، والسيد الذي كمل سؤدده، والعظيم الذي كملت عظمته، والغني الذي كمل غناه، والحليم الذي كمل حلمه، والعليم الذي كمل علمه، وهلم جرا في كل صفات رب العالمين، ولا يكون ذلك إلا لله رب العالمين.
إذا امتلأ القلب بهذا وعرف أن ربه جل في علاه مستغنٍ عن كل أحد، عن كل شيء ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾لم، ثم اكتملت الآية بأن أخبرت نفيًا أنه ليس له نظير، ليس له كفؤ، ليس له مماثل، ليس له ند جل في علاه فقال: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾يعني ليس له مماثل ولا ند، ولا نظير، ولا سمي جل في علاه سبحانه وبحمده.
بهذا يتبين أنه رب اتصف بصفات الكمال التي تندهش لها القلوب، ولهذا لا يحيط العباد بربهم علمًا، ولا يحيطون به علمًا لكونهم ما يعلمونه من صفاته أصلًا لا يدركون غايته ومنتهاه، إنما يدركون معناه الإجمالي أما حقيقته فذاك شيء لا تدركه عقولهم، بل يوم القيامة إذا اجتمع الخلق وسار أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، نسأل الله أن نكون من أهل الجنة ونعوذ بالله أن نكون من النار، يرى المؤمنون ربهم وهذا من نعيم أهل الجنة: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ[22] إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾[القيامة:22-23]، تراه جل في علاه، الله أكبر ما أعظمه من جزاء، أعظم نعيم أهل الجنة أن ينظروا إلى ربهم، لكن هذا النظر هل يدركون به رب العالمين؟
سبحانه يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار، فالأبصار لا تدركه جل وعلا، بمعنى أنها لا تحيط به، ولا تتمكن من إدراك ما له من كمال صفاته، وبهاء، وجمال سبحانه وبحمده، فجماله وبهاؤه وكماله لا يحيط به العباد، إذا كان العباد لا يحيطون بشيء من صفة من صفاته فكيف يحيطون به؟
قال -جل وعلا-: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾[البقرة:255]، وهي صفة من صفاته فكيف يدرك العباد قدر ربه؟! ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾[الأنعام:91]
الله أجل وأعظم من أن يحيط به عباده، ولا يحيطون به علمًا سبحانه وبحمده.
إن المؤمن يتعبد لله -عز وجل- بأسمائه ففي معنى الصمد يتحقق قوله تعالى: ﴿فَادْعُوهُ بِهَا﴾[الأعراف:180] من ناحيتين:
- من ناحية امتلاء القلب بهذه المعاني التي فيها إثبات الكمالات لله عز وجل، ومن ناحية أن العبد ينزل حاجته بربه، فليس له غير الله تعالى ملجأ، ولا له سوى ربه ملاذ، أني لأكرم وجهي أن أوجهه عند السؤال لغير الواحد الصمد.
- الله أكبر! ما أعظم استغناء العبد عن الخلق إذا اغتنى بالله، وإذا عرف قدر ربه، وأنه لا خير إلا من قِبله، ولا يندفع شرٌّ إلا به سبحانه وبحمده، فإنه يمتلأ قلبه قناعة، ويمتلأ قبله إيمانًا فيعز لذلك ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾[المنافقون:8]
عز القناعة والإيمان يمنعني من التعرض للمنانة النكدِ
هكذا يكون المؤمن مستغنيا عن غير الله عز وجل؛ لأنه يعلم أن الله هو الصمد، أنه بيده جل في علاه العطاء، أنه -سبحانه وبحمده- هو الذي يَهَب، وهو الذي يمنع فلا يلتفت إلى سواه.
ولهذا ينبغي أن يعرف المؤمن أن دعاء العبادة أو دعاء المسألة مقترنين، فمن كمل في دعاء العبادة بفهم هذه الأسماء، وإدراك معانيها، والتعبد لله قلبيًّا بها فإنه سينعكس ذلك في دعائه، وفي سؤاله، وفي طلبه، وفي رجاءه.
في حديث محجن بن الأدرى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يدعوه ويقول –استمع إلى هذا الدعاء- يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّه لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، الأَحَدُ، الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ أن تغفر لي»فقط، سمعه يدعو بهذه الدعوة مقدمة بهذا التوسل والطلب:اللهم أني أسألك أي أطلبك بأنك أتوسل إليك، وأستشفع بك عليك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء الذي سمعه، يقول الراوي في الدعاء الذي سمعه النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّه لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، الأَحَدُ، الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ أن تغفر لي»، فماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟
قال صلى الله عليه وسلم: «قد غُفر له»، غُفر له ذنبه، كرر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا: «قد غُفر له، قد غُفر له، قد غُفر له»[سنن أبي داود(985)، ومسند أحمد(18974)، وصححه الألباني ]، ذاك أنه سأل الله تعالى متوسلًا إليه بصفات الكمال، التي تقضى بها الحاجات، التي يدرك بها الإنسان المطلوبات، التي يبلغ بها الإنسان حاجته، ولهذا جاء في الحديث أن السؤال بهذا الاسم كما في حديث عبد الله بن بريدة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع رجلًا يقول في دعائه: «اللهمَّ إني أسألُك بأني أشهدُ أنك أنت اللهُ لا إلهَ إلا أنت الأحدُ الصمدُ الذي لم يلدْ ولم يولدْ ولم يكنْ له كفوًا أحدٌ قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: لقد سأل اللهَ باسمِه الذي إذا سئل به أعطى وإذا دُعِي به أجاب»[أخرجه الترمذي في سننه(3475)، وحسنه]، وهناك في حديث محجن ذكر دعوة واحدة وهي المغفرة.
أمام بابك كل الخلق قد وفدوا وهم ينادون: يا فتاح، يا صمد
فأنت وحدك تُعطي السائلين ولا يرد عن بابك المقصود من قصدوا
إن العبد إذا امتلأ قلبه بهذا انصرف عن كل ما سوى الله، امتلأ قلبك بمعنى الصمدية، وأن ربك هو القدير الذي جل في علاه قد بلغ في القدرة كمالها، وهو الغني الذي كُمل في غناه، وهو العظيم الذي كُمل في عظمته، الحي الذي كُمل في حياته، القيوم الذي كُمل في قيوميته لن تلتفت إلى سواه، لن تذهب إلى غيره، بل ستقصده وحده لا شريك له سبحانه وبحمده.
إن بعض أهل العلم ذكروا في طرق التعبد بأسماء الله، أو ببعض أسماء الله ومنها( الصمد) أن يتشبه العبد بالله في صفاته، وهذا غلط فإنه لا يمكن أن يبلغ العباد شيئا من صفات ربهم، ورووا في ذلك حديثًا لا أصل له، ضعيف، وهو قوله فيما نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «تخلقوا بأخلاق الله»[وصفه ابن القيم في المدارج بالبطلان(3/241)] تعالى الله عن أن يشابهه، أو أن يماثله، أو أن يضارعه أحد، فهو الذي ليس كمثله شيء.
لكن هناك خصال فاضلة أحبها الله من عباده وندب إليها وهي من صفاته، هذه نفعلها لا لأنها من صفاته، لكن لأنه ندبنا إليها مثل الرحمة: «الرَّاحمونَ يرحمُهُمُ اللَّهُ»[أخرجه الحاكم في مستدركه(7480)، وصححه، ووافقه الذهبي]، ومثل الجمال: «إنَّ اللَّه جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَال»[صحيح مسلم(91/147)]، ومثل الحياء:«إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ حييٌّ ستيرٌ»[سنن أبي داود(4012)، وحسنه الألأباني في مشكاة المصابيح(447)]، وما أشبه ذلك من الصفات التي يحبها الله تعالى من عباده.
فنحن نتصف بها ونتخلق بها؛ لأنها صفة رب العالمين، ومن ذلك الصمد قضاء حوائج الناس، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث أبي هريرة: «منْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حاجتِهِ»[صحيح البخاري(2442)، ومسلم(6670)]، فنحن نسعى لقضاء حوائج الناس إدراكًا لفضل الله وعطائه، لأنها صفة الرحمن ونحن نتشبه بالله، فتعالى الله عن أن يكون له نظير، أن يكون له مثيل، أن يكون له شبيه، أن يكون له كفؤ؛ فهو الأحد الصمد: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الشورى:11] سبحانه وبحمده.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه، والشوق إلى لقائه في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم [فادعوه بها]، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.