السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أفضل من صلى وصام، جاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة حتى تركها على سبيل قويم، محجة بيضاء لا يذهب عنها إلا هالك، فصلى الله عليه.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
أما بعد...
فحياكم الله وأهلًا وسهلًا بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم ]فادعوه بها[.
ولازلنا نتفيأ ظلال معاني اسمَيّ الله عز وجل [الواحد الأحد]، [الواحد الأحد] اسمان شريفان من أسماء الله عز وجل ذكرهم الله تعالى في محكم كتابه، كرر الله تعالى ذكر [الواحد]، وذكر [الأحد] في محكم الكتاب، فالواحد جاء ذكره في اثنتين وعشرين موضعاً، وأما الأحد فجاء في موضع واحد في سورة الإخلاص.
أسماء الله تعالى التي أمرنا الله تعالى بمعرفتها وهي الدالة عليه جل في علاه تأتي في القرآن منفردة، وتأتي في القرآن مقترنة، فيأتي الاسم منفرداً، ويأتي الاسم مقترناً؛ ففي حال انفراده يدل ذلك على كمال الله عز وجل في معنى ذلك الاسم الذي جاء منفردًا، كقوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ[1] عَلَّمَ الْقُرْآنَ[2] خَلَقَ الإِنسَانَ[3] عَلَّمَهُ الْبَيَانَ[4]﴾[الرحمن1-4]، هذا فيه ذكر هذا الاسم منفرداً، ويأتي الاسم مقترنًا كقول الله -جل وعلا-: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[2] الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[3] مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[4]﴾[الفاتحة2-4].
فهنا الأسماء جاءت مقترنة: اقتران الرحمن بالرحيم، برب العالمين، بالله، بمالك يوم الدين، ففي حال إتيان هذه الأسماء منفردة تدل على معنى عظيم وشريف، وفي حال اقترانها تدل أيضًا على ذلك المعنى وزيادة؛ لأنه في الاقتران يظهر من معنى الاسم ما لا يكون في حال الانفراد، ولهذا من الفقه في أسماء الله عز وجل، ومن تدبر القرآن الذي من أجله أنزل الله هذا القرآن أن نفهم ونبذل جهدًا في إدراك معاني هذه الأسماء حال انفرادها، وحال اقترانها.
فإنه في حال الانفراد لها دلالات، وفي حال الاقتران لها دلالات وأنا مثَّلت بمثال وهو "الرحمن" حيث جاء منفردًا في افتتاح سورة الرحمن، وجاء مقترنًا في سورة الفاتحة في جملة من الأسماء التي ذكرها الله تعالى كقوله -جل في علاه-: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[2] الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[3] ﴾[الفاتحة3-2].
إن من المهم لكل من أراد أن ينتفع من هذه الأسماء، ويحقق الإحصاء الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم«مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ»[صحيح البخاري(2736)، ومسلم(2677/6)]، أن يعتني بهذه الاقترانات وبذلك الانفراد وبدلالات هذه الأسماء حال اقترانها، وحال انفرادها.
وهذا أيها الأخوة والأخوات شيئ يمكن أن يدركه الإنسان من خلال التدبر، والتأمل، والتفكر في معاني هذه الأسماء وهذا بابٌ مفتوح ليس مغلقاً، ولا محدوداً، ولا مقصورًا على صاحب تخصص أو دارس متخصص، بل الله تعالى يقول: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾[محمد:24]، ويقول جل في علاه: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾[ص:29].
فتدبُّر الآيات يفتح كنوزًا من العلم، وأبوابًا من المعرفة لكل من تدبر القرآن، وبذل وسعه في تفهمه وإدراك معانيه، ومنه إدراك معاني أسماء الله تعالى إذا جاءت منفردة، أو جاءت مقترنة؛ ففيها من العلم ما ينير البصيرة، ويكشف الغمة، ويطلع الإنسان على كمالات للرب جل وعلا لا يمكن أن يفهمها في حال الانفراد وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
وأقول لإخواني وأخواتي لا يحقرن الإنسان نفسه في باب التدبر فكم من معرفة، وكم من علم، وكم من هدى، وكم من بصيرة، وكم من هداية يدركها الإنسان بتدبره لكن ليحظى أن يكون في ذلك معتدًا بنفسه غير راجع لأهل العلم، هو يبدأ وينظر ولكن إذا التبس عليه أمر، أو أراد أن يتحقق من معنى فليراجع كلام الله عز وجل، وما ذكره العلماء في تفسير معاني كلامه؛ لأن بذلك يملك الإنسان الضمانة أن لا ينحرف، أن لا يذل، أن لا يضل فيقع في انحراف في فهم كلام الله عز وجل.
وهذا واقع بعض الناس يبدو له معنى في آية من الآيات ويظن أن هذا هو المعنى الصحيح بناء على فهمه، ولا يرجع لكتب التفسير، ولا يسأل العلماء، ولا يراجع أهل الذكر فيلتبس عليه السبيل ويخطئ في فهم مراد الله، وفهم معنى كلامه جل وعلاه.
أيها الإخوة والأخوات! إن اسم الله تعالى [الأحد] جاء منفردًا ذكرًا فقال: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾[الإخلاص:1]، بمعنى أنه جاء على وجه الخبر فلم يقترن له اقتران الصفات كقوله تعالى على سبيل المثال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾[الفاتحة:3]، لكن هو من حيث المعنى العام للاقتران هو مقترن باسم الله، ومقترن باسم الصمد؛ لأنه جاء في سياق هذين الاسمين ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[1] اللَّهُ الصَّمَدُ﴾[الإخلاص2:1]، بالتالي معرفة هذين الاسمين المقترنين في معناهما مع الأحد يبين لنا معنى إضافي أن الله أحد في إلهيته، أحد في ربوبيته؛ لأن الله ذكر مع الأحد هذين الاسمين: اسم يدل على الإلهية وهو "الله"، والإلهية هي أن لا يُعبد سواه، ولا يقصد إلا وجهه جل في علاه.
وذكر "الصمد" وسيأتينا في بيان معانيه ما يشفي الخاطر بإذن الله تعالى فيما نستقبل لكن الصمد هو الذي تقصده الخلائق في قضاء حوائجها، فانفرد الله تعالى بهذا في قضاء الحوائج، وقضاء الحوائج من ربوبيته، وقصد العباد له من الإلهية، فهو الفرد جل في علاه في إلهيته، وفي ربوبيته، وفي أسمائه وفي صفاته، وفي كمالاته، وفي كل ما لا يكون إلا له جل في علاه.
إذًا اقتران الأحد بالصمد وبالله يؤكد الانفراد التام في معاني هذين الاسمين، في معاني الربوبية، وفي معاني الإلهية، وفي سائر أوجه الكمال فالله أحد فيها، ولذلك خُتمت سورة الإخلاص بما افتُتحت به، لكن افتُتحت إثباتًا واختُتمت نفيًا.
تأمل وتأملي هذه السورة المختصرة التي نحفظها جميعاً، يقول الله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾[الإخلاص:1] لا شريك له جل في علاه، أحد في إلهيته، في ربوبيته، في أسمائه وصفاته فيما يجب له، فلا يشرك به سواه ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ[2] لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾[الإخلاص3:2]، ثم قال: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾[الإخلاص:4]، هذا تقرير للمعنى الأول الذي جاء في أول السورة، لكنه جاء بصيغة النفي حتى يجتمع تمام الإنفراد إثباتًا ونفياً، إثباتًا لأحاديته، ونفيًا لأن يشاركه شيئ في المعاني من خلقه، فهو الذي لا كفؤ له، ولا ندا، ولا مثيل، ولا نظير، تعالى الله عما يقول الجاهلون علوًّا كبيرًا.
إن الله -سبحان وبحمده- ذكر اسم الواحد في مواضع عديدة، ذكره مفردًا وذكره مقترنًا، فمن أوجه وموارد الاقتران التي جاء فيها هذا الاسم، جاء ذلك في مثل قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾[الرعد:16]، والخلق من الربوبية فجاء مقترنًا بالقهر في الربوبية، وذلك أنه لا خالق سواه، الله خالق كل شيء فهو المنفرد بالخلق، والقاهر لعباده، ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾[الأنعام:18] جل وعلا، وقهره مقتضاه أن تنفذ فيهم أقضيته وأقداره، فلا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه جل في علاه.
وجاء أيضًا في مقام الربوبية: ﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾[يوسف:39]، وجاء في مقام الإلهية فقال: ﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾[إبراهيم:48]-، وذلك يوم القيامة، وقال -جل وعلا-: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾[ص:65]، فجاء في مقام تحقيق وتقرير الإلهية، اقتران اسم الله عز وجل الواحد باسم القهار.
وكذلك قال -جل وعلا-: ﴿لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾[الزمر:4]، وجاء في تقرير البعث والنشور، وإنفراد الله -جل وعلا- بتمام الملك في يوم الميعاد فقال: ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾[غافر:16] سبحانه وبحمده.
من النظر إلى هذه المعاني يتبين أن هناك اقترانًا في كونه المنفرد؛ بأنه قهار جل في علاه، فإن الواحد لا يكون إلا قهارًا، ولا يكون قهارًا إلا واحدًا، فلا يمكن أن يكون أكثر من قهار؛ لأنه لو كان أكثر من قهار لتعدد، ولو لم يكن قهارًا لم يكن واحداً؛ لأنه سيكون مقهورًا بغيره وهو جل في علاه منفرد بالقهر والوحدة.
ولهذا كان هذان الاسمان مقترنين في كلام الله عز وجل في مواضع عديدة من محكم كتابه جل في علاه.
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- في هذا الاقتران: "ووحدته تعالى وقهره متلازمان؛ فالواحد لا يكون إلا قهاراً، والقهار لا يكون إلا واحداً، وذلك ينفي الشركة من كل وجه، فلا شريك له جل في علاه"[تفسير السعدي(ص719)]، وبه يتبين تمام الملك، وعظيم الصفات التي اتصف بها ربنا جل في علاه، حيث أنه لا ينازعه -جل في علاه- في صفاته أحد، وكل من نازع الله شيئًا من صفاته فمآله الخسار، ومنتهاه إلى البوار، فهو الواحد القهار سبحانه وبحمده، لا نحصي ثناءً عليه.
هذا بعض ما يتعلق بمجيء هذين الاسمين: اسم [الواحد]، واسم [الأحد] مقترنين في كلام الله عز وجل، وفيما جاء أيضًا في السنة: جاء الاقتران بين هذين الاسمين وبعض الأسماء الأخرى.
أسأل الله تعال أن يرزقني وإياكم الفقه في أسمائه، وصدق الإيمان به، وصدق الدعاء له بها، دعاء عبادة ودعاء مسألة، وبذلك ينال العبد فوز الدنيا ونجاة الآخرة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم ]فادعوه بها[، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.