إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله إلا هو العزيز الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد...
فأهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم [فادعوه بها]، الله تعالى يقول في محكم كتابه: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾[الإخلاص:1] فمن أسمائه الأحد، ويقول -جل وعلا-: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾[المائدة:73]، ويقول -جل وعلا- في محكم كتابه: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾[البقرة:163].
الله -جل في علاه- أخبر عن وحدانيته، باسمين من أسمائه؛ اسم (الواحد)، واسم (الأحد)، وكلاهما دال على انفراد الله -جل في علاه- بالكمال، وأنه لا شريك له، ولا مثيل، ولا نظير، ولا كفؤ.
هذان الأسمان من حيث المعنى يدلان على معنى واحد إلا أن بينهما فرقًا، فما يمكن أن يكون الفرق؟ ما الذي يمكن أن يكون الفرق بين هذين الاسمين؟
الفرق بينهما أن الأحد أبلغ في إثبات صفة الوحدانية والتفرد لله جل في علاه، فهو في الصفة أكثر إثباتًا، وأعظم تقريرًا لهذا المعنى من اسم الواحد، وإن كان كلا الاسمين يدل على وحدانية الله وتفرده سبحانه وبحمده، لكن الفرق بينهما وهو فرق دقيق أن الأحد أقوى في إثبات هذا المعنى من اسم الواحد، لكن لكون الواحد أكثر استعمالًا في إثبات الوحدانية جاء تكراره في القرآن؛ لأنه يمكن أن يقال: لماذا إذا كان الأحد أكثر إثباتًا أو أعظم إثباتًا في المعنى من الواحد، لماذا لم يذكره الله تعالى في القرآن إلا مرة واحدة، في حين أن الواحد ذكره الله تعالى في القرآن مرات عديدة كما تقدم أن الله تعالى ذكره 22 مرة في القرآن الكريم؟
الجواب: أن الله تعالى ذكر الواحد في مواطن عديدة لكنه ذكره غالبًا مقرونًا بأسماء أخرى من أسمائه جل وعلا، هذا واحد.
ثانيًا: أنه الأكثر استعمالاً في إثبات معنى الانفراد، وفي إثبات معنى الوحدة. ويستعمل الواحد في الإثبات وفي النفي، بخلاف الأحد فإنه لا يستعمل في حق الناس إلا في النفي، تقول: لا أحد في الدار ولكن لا تقول: أحد في الدار، إنما تقول في اللغة ولسان العرب: لا أحد في الدار، أما واحد فتستعمل في الإثبات، وفي النفي فتقول: واحد في الدار؟ أو تقول: لا واحد في الدار، وهذا استعمال سائغ، وهذا الفرق لغوي لكنه مما اختص الله تعالى به في اسم الأحد أنه جاء مثبتًا لله -عز وجل- في سياق الإثبات، قال الله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾[الإخلاص:1]، ولهذا لا يوصف به سواه في مقام الإثبات، لا يوصف غير الله تعالى بهذا الاسم في مقام الإثبات، فلا يصح أن يسمى أحد من الناس أن يسمى أحدًا، أو أن يسمى الأحد، بل لا يكون ذلك إلا لله جل وعلا.
إن معنى الأحد والواحد متفق من حيث الدلالة العامة كما ذكرنا أنهما يدلان على معنى الانفراد، يدلان على معنى الوحدة، يثبتان الوحدانية لله جل وعلا، ولهذا كلام العلماء في معنى الواحد والأحد متقارب حتى قيل: إن الواحد هو الأحد كما قال ذلك القرطبي وجماعة من أهل العلم، فقالوا: الواحد هو الأحد، لكن هذا لا يعني أنه ليس بينهما فرق بل بينهما فرق، فمعنى اسم الواحد والأحد أن الله تعالى فرد، وأنه لم يزل وحده جل في علاه، وأنه لم يكن معه غيره، وأنه -جل وعلا- المتفرد بالكمال فليس له نظير، وليس له مثيل، وليس له شريك، وليس له سميّ سبحانه وبحمده، ولهذا إذا امتلأ قلب العبد بمعنى الواحد الأحد انقطع عن التعلق بغير الله عز وجل، فالله هو الواحد الأحد في ربوبيته، فلا خلق إلا خلقه، ولا رزق إلا رزقه، ولا ملك إلا ملكه، ولا عطاء وتصريف وتدبير إلا عطاؤه وتدبيره وتصريفه سبحانه وبحمده.
الواحد الأحد يدل على انفراد الله تعالى بالإلهية فلا إله غيره، فلا يقصد أحد بشيء من العبادة سوى الله جل وعلا، وكل من قصد غير الله تعالى بالعبادة فإنه ضل السبيل، وانحرف عن الطريق القويم، وشابه المشركين الذين قالوا: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾[ص:5].
(الأحد) من معانيه إثبات الكمالات لله عز وجل، فهو الذي توحَّد جل وعلا بجميع الكمالات، فلا يشاركه فيها مشارك، بل يجب على العباد أن يقروا بأنه لا شريك له سبحانه وبحمده، لا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا فيما يجب له سبحانه وبحمده، فقل هو الله أحد؛ أحد في الكمالات، في الأسماء والصفات والأفعال، أحد في العبادة فلا يكون أحد معه في العبادة لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك فهو جل في علاه لا شريك له بوجه من الوجوه، ولا يمكن أن يُتخيل أن يكون معه إله غيره سبحانه وبحمده بل هو المنفرد بالإلهية وحده سبحانه وبحمده.
فله الكمال المطلق، له التفرد بالوحدانية، فعباده يفردونه بأنواع العبادة لا يصرفون شيئًا من ذلك إلى أحد من خلقه.
إن الإيمان بأن الله هو الواحد، وأنه الأحد يعكس آثارًا في القلب، فإذا امتلأ القلب إيمانًا بأن الله واحد أحد لم يتوجه إلى غيره بعبادة قلبية أو بدنية أو لسانية، فلا تجد في قلبه محبة أو تعظيمًا إلا لله، ولا تجد في لسانه هتافًا ودعاء وسؤال إلا لله عز وجل، ولا تجد في جوارحه طاعة وانقيادًا تامًّا إلا لله -عز وجل-: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الشورى:11]، ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾[الإخلاص:4] سبحانه هذا الوجود وهذا الواحد الأحد، ولا يشاركه في وصفه أحد سبحانه وبحمده.
إن الإقرار بأن الله -سبحانه وبحمده- هو الواحد الأحد يحقق ما جاءت من أجله الرسل، يحقق دعوة النبيين، فجميع المرسلين جاءوا يأمرون الناس بأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، ولذلك لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى أهل اليمن قال له: «إنَّك تأتي قومًا أهلَ كتابٍ فليكن أوَّلُ ما تدعوهم إليه شهادةَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ»[صحيح البخاري(1458)، ومسلم(19/31)] أن يوحدوا الله تعالى، إن النبي صلى الله عليه وسلم بين هذا الأصل بيانًا واضحًا، فعبادة الله وحده هي فرع من إقرار المؤمن واعتقاده أن الله هو الواحد الأحد، فلا يجوز أن تصرف صلاة ولا زكاة ولا صوم ولا حج، ولا ذبح، ولا نذر، ولا حكم إلا له جل وعلا فيمتلأ قلب العبد رقًّا لله، توكلًا عليه، خوفًا منه، خشوعًا له ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الأنعام:162] لا شريك له.
إذا نزلت بالإنسان نازلة، وحلت به كربة، فإلى من يفزع؟
لا يفزع إلا إلى الله، فلا يلجأ إلا إليه سبحانه وبحمده، ولا يستند إلا إليه، ولا يُقبِل إلا على الله فإنه الذي لا إله غيره، فلا تدعُ معَ الله إِلَه آخَرَ فتكونَ من المعَذَّبِين[الشعراء:213].
فينهى الله تعالى عباده أن يتوجهوا إلى غير الله تعالى في دعائهم أو في سؤالهم أو في طلب فإن ذلك يوجب العقوبة، وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾[المائدة:72] يعني من يخالف معنى الواحد الأحد وهو أن يسوي غير الله بالله، أو أن يثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله، فإن الله تعالى يحرمه أعظم المطالب، يحرمه الجنة، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ﴾[المائدة:72] الله رب العالمين حرم على المشركين الجنة، والشرك ما هو؟
الشرك حقيقة: تسوية غير الله بالله، هذا معنى الشرك أنه ليس أمرًا لا يُعلم، فقد جاء النبي بيَّنه بيانًا واضحًا، فقد دعا الناس ثلاثة وعشرين عامًا إلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، فهل يمكن أن يكون هذا خفيًّا؟!
الله تعالى يقول: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾[المائدة:72]، ما الذي جاء بوصف الظالمين هنا؟
لأن المشرك وقع في أعظم الظلم، ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾[لقمان:13]، إنه تسوية غير الله تعالى بالله، ولذلك هذا الاسم يملأ قلب المؤمن توحيدًا لله -عز وجل- الواحد الأحد، لا يجد الإنسان في قلبه إذا أيقن بهذا المعنى انصرافًا إلى غيره، أو ميلًا إلى سواه سبحانه وبحمده.
إن من آثار الإيمان بأن الله واحدًا أحدًا أن يقطع عن الله -عز وجل- النسبة بأن يكون له ولد، أو أن يكون له والد، فهو -سبحانه وبحمده- أحد ليس له والد ولا ولد جل في علاه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «قالَ اللَّهُ تبارَك وتعالى كذَّبني ابنُ آدمَ ولم يَكن ينبغي لهُ أن يُكذِّبني وشتَمني ابنُ آدمَ ولم يَكن ينبغي لهُ أن يشتُمَني أمَّا تَكذيبُه إيَّايَ فقولُه إنِّي لا أعيدُه كما بدأتُه»نفي وتكذيب البعث، لن يعيدني أي يبعثني بعد الموت كما بدأني «وليسَ آخِرُ الخلقِ بأعزَّ عليَّ من أوَّلِه، وأمَّا شتمُه إيَّايَ فقولُه {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}» يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقصد عن الله، يقول الله في هذا الحديث: «وأنا اللَّهُ [الأحدُ] الصَّمدُ لم ألِد ولم أولَد ولم يَكن لي كفُوًا أحدٌ«[صحيح البخاري(4482)]، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[ 1] اللَّهُ الصَّمَدُ[2] لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ[3] وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾[الإخلاص].
فمن أيقن بهذا المعنى انقطع، بمعنى الواحد الأحد التفرد وإثبات الوحدانية لله عز وجل انقطع عن قلبه أن يكون له ولد، تعالى الله أن يكون له ولد، تعالى الله أن يكون له متفرع منه سبحانه وبحمده فهو الصمد الأحد الواحد جل في علاه.
إن الإيمان بأن الله واحد أحد يملأ قلب الإيمان، يملأ قلب العبد يقينًا وسعادة وبهجة، فإن من كان إلهه واحدًا لم يلتفت إلى سواه، أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وقد ضرب الله مثلًا الذي توزع قلبه بين الآلهة فعبد هذا، وعبد ذاك كيف شقي وتعس، قال الله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾[الزمر:29] ﴿مُتَشَاكِسُونَ﴾ يعني متنازعون، ﴿وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾ أي: وآخر سالم من أن يكون له في أحد شركة ﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا﴾ ؟!
اللهم إنا نسألك صدق الإخلاص لك، وتمام الإقبال عليك، وتحقيق العبودية لك، ظاهرًا وباطنًا، نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى يا ذا الجلال والإكرام، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم [فادعوه بها] أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.