السلام عليكم ورحمة الله وبركاته مرحبا وأهلا وسهلا بكم أيها الإخوة والأخوات، الحمد لله رب العالمين أحمده حق حمده لا أحصي ثناء عليه كما أثني على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين أما بعد.
فأهلا وسهلا ومرحبا بكم ثانية، هذه الحلقة سنتناول فيها -إن شاء الله تعالى- مفتاحًا من مفاتيح الجنة إنه "الصبر"، ذاك الذي لا غنى لأحد عنه، فالصبر لا تقوم حياة أحد إلا به، لا يمكن أن تقوم الدنيا ولا أن تصلح الآخرة إلا بالصبر، الصبر له منزلة سامية ومكانة عالية، فالله تعالى أمر به وذكره وحث عليه ورغب فيه، وأثنى على أهله في أكثر من تسعين موضعًا في كتاب الله –عز وجل-في القرآن الحكيم، ذاك أن الصبر لا يتحقق الإيمان إلا به، ولهذا لما قيل للنبي –صلى الله عليه وسلم-في حديث عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ ما الإيمان؟ قال: «الصبر والسماحة»[أخرجه أحمد في مسنده(19435)مطولا، وسنده ضعيف، قال الهيثمي:وَفِيهِ بَكْرُ بْنُ خُنَيْسٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ]، وهذا من أعظم الكلام وأخصره في بيان قوم الدين، قوم الإيمان إنه لا يتحقق إيمان لأحد إلا بهذين الأمرين؛ الصبر، والسماحة، فالصبر لأنه يجري على الإنسان ما يكره، ويطلب منه أداء وقيام بواجبات وحقوق وامتناع عن محرمات، لا يستطيع أن يقوم بذلك إلا من خلال الصبر.
أما السماحة، فالسماحة هي البذل، والطيب وذاك لا يكون إلا بالعطاء والبذل، وذاك فرع السماحة، العطاء والبذل يكون نتيجة لنفس سمحة وأخلاق وخصال اصطبغت بالسماحة.
إذًا من المهم أن نعرف أن الصبر كما قيل نصف الدين، فنصف الدين صبر، ونصف الدين شكر، وهو معنى ما في الحديث لما قيل ما الإيمان؟ قال: «الصبر والسماحة»، لأن الشكر لا يمكن أن يحققه إلا سمح، فمن اتصف بخصال السماحة كان شاكرًا، ومن لم يتحقق بخصال السماحة لم يتحقق له الشكر.
الآن إذا أردت أن تصل إلى مطلوب دنيوي كيف تصل إليه، مثاله: الفلاح الذي يبذر البذرة في الأرض، ثم يسمد الأرض ويرعاها ويسيقها، ثم تخرج نبتة، ثم يرعيها ويصونها، ويبعد عنها ما يعيق نموها، ثم بعد ذلك يتابع العناية والسقي والتسميد، والعناية بها حتى تثمر، هذا متى وصل إلى ما أراد، إنه لم يصل إلى ما يريد إلا بالصبر، لا يمكن أن يدركه إلا ما يؤمله في دين أو دنيا إلا بالصبر، الناجحون في الدنيا، والناجحون في الآخرة كل ذلك بصبرهم، ولهذا كان الصبر مفتاحًا لكل الخيرات، مفتاح الجنة أعلى المطالب، لهذا إذا التقى المؤمنون بالملائكة يوم القيامة حيوهم، كما قال الله -جل في علاه- في محكم كتابه في ذكر أهل الجنة ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾[الزمر: 73]، هذا التبشير بالخلود إنما هو جزاء ما عند ما كانوا عليه من صبر ومصابرة ليدركوا ما يؤملون وما يريدون من خير، فالصبر سبب لبلوغ الجنة والدخول إلى عطاء الله وبره وإحسانه، وبذلك يبلغ الإنسان الخير ويصل إلى المطلوب ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[الزمر: 10]، والملائكة يدخلون على أهل الجنة كما قال تعالى: ﴿وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُم ْفَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾[الرعد: 23-24].
انتبه لما سلموا عليهم ذكروا سبب دخولهم وسبب سلامتهم، وسبب فوزهم، فقال الله –جل وعلا-: ﴿وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُم﴾[الرعد: 23-24].
إذًا السلام إنما كان بالصبر، والفوز بدخول الجنة كان بالصبر ﴿بِمَا صَبَرْتُم ْفَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾[الرعد: 24]، أي: نعم عقبى ما فعلتم في الدنيا من مصابرة ومكابدة حتى وصلتم إلى هذا العطاء، والله تعالى يقول: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾[البقرة: 155] بشرهم بماذا؟ بشرهم بالسعادة، بشرهم بكل فوز، بشرهم بكل خير لماذا؟ لأنهم صبروا، فقد ذكر الله الصفة التي استحقوا البشارة من أجلها وهي صفة الصبر.
إن من المهم للمؤمن أن يعرف أنه الصبر يحتاجه للقيام بطاعة الله –عز وجل-، وهذا جانب من الجوانب، فلا يمكن أن يحقق الإنسان الصبر إلا لله حق وللإنسان الطاعة إلا بالصبر والمصابرة لهذا قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[آل عمران: 200]، فيحتاج إلى الصبر حتى يحقق طاعة الله تعالى، يحتاج إلى الصبر أيضًا حتى يحقق الامتناع عما نهى الله تعالى عنه، يكف نفسه عن المحرمات، وذاك لا يكون إلا بالصبر، فإنه إذا صبر وقاه الله تعالى هذا الصابر شر السيئات، إنما النصر صبر ساعة، فالنصر على النفس، النصر على الهوى، النصر على الشهوة، النصر على المحرَّم أن تصبر ساعة، ثم تنتصر، فإذا دعتك نفسك إلى ملذة، أو إلى مخالفة، أو إلى معصية اصبر نفسك، وتذكر أن الله تعالى قد قال: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[الزمر: 10]، فإذا صبرت أعانك الله تعالى، يسر الله لك الصبر وأعانك على الخير ووفق لك كل صلاح واستقامة، إن الإنسان يحتاج إلى الصبر، وهذا الذي يتبادر إلى ذهن كثير من الناس في المصائب، المصائب تصيب الناس بشتى صورها وألوانها يقول الله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾[البقرة: 155-156] الإنسان يحتاج إلى الصبر حتى يتوقى شر المصائب، هذه الدنيا بكل صورها وأنواعها وأحوالها غنية وفقيرها، شريفها ووضيعها، أميرها ومأمورها، ملكها ومملوكها، كل من في الدنيا لابد أن يصيبه نوع من الكدر، الله تعالى يقول: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾[البلد: 4] هذه الدنيا مجبولة على أن تجري فيها مصائب وابتلاءات، ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾[الأنبياء: 35]، وهذا ليس خاصًّا بفئة من الناس، بل بكل الناس، فكلهم مبلَون بما يكرهون، ما في إنسان سالم من المكاره، كل من لاقيت يشكو دهره، ما في أحد إلا ويشكو شيئًا من أيامه، وشيء من أحواله، ليت شعري هذه الدنيا لمن ليتني أعلم وأعرف، هذه الدنيا سلمت لمن وخلصت لمن؟ إذا كان سيد ولد آدم أصابه ما أصابه من ألوائها وأمراضها وغصصها وأكدارها، فكل الناس من باب أولى أن يكونوا عرضة لما يكرهون، وسببًا ومحلًّا لوقوع ما لا يرضون، إذا استحضر الإنسان هذا المعنى، أعان هذا على الصبر فيما يصيبه من المكروهات، وقد رتب الله تعالى على ذلك أجرًا عظيمًا وعطاء جزيلًا، فقال –صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ ماتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ كان حجابًا له من النار»[أخرجه البخاري(1381) من حديث أنس]، وقال –صلى الله عليه وسلم-: «ما لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِندِي جَزاءٌ، إذا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِن أهْلِ الدُّنْيا»يعني من يحبه ومن يرتضيه، ومن يميل إليه سواء كان أبًا أو ابنًا أو والدًا أو صديقًا أو قريبًا أو بعيدًا من صافه من يحبه «يقولُ اللَّهُ تَعالَى: ما لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِندِي جَزاءٌ، إذا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِن أهْلِ الدُّنْيا ثُمَّ احْتَسَبَهُ، إلَّا الجَنَّةُ»[صحيح البخاري(6424)]
الله أكبر! هذا يدل على أن الصبر مفتاح من مفاتيح الجنة، حتى في هذه القضية المفردة وهي الصبر على حادثة، على جزئية من المكروهات يكون ذلك سببًا للفوز بالجنة.
ولذلك ينبغي للمؤمن أن يحتسب الأجر عند الله –عز وجل-في كل ما يصيبه، وقال –صلى الله عليه وسلم-: «من أخذت إحدى حبيبتيه» يعني إحدى عينيه »فصبر فله الجنة«[صحيح البخاري(5653)، بنحوه] هذا عطاء كبير من الله –عز وجل-على مصائب تصيب الناس دون اختيار، فإذا صبروا كانت أجرًا وفضلًا وعطاء وبرًّا وإحسانًا من الله تعالى، ولنعلم أن الصبر إنما يكون بالتصبر، يعني الصبر ليس شيئًا صعب المنال، إنما يكون الإنسان بتصبير نفسه، وتسليتها والنظر في أحوال الناس والتعزي بمن كان أعظم مصابًا، فإنه بذلك يدرك الإنسان الصبر، ولذلك قال «ومن يتصبر يصبِّره الله».[صحيح البخاري(1469)]
فينبغي للإنسان ألا يستسلم للحوادث، والنوازل، والكروبات، والشدائد، وينفع الله بل يتصبر، ثم هو إذا لم يصبر فسيسهو، يعني ما في إنسان صاحب مصيبة يبقى كل الدهر جزعًا، بل أول ما تكون الصدمة أو ما تنزل البلية يشق على الإنسان ويثقل عليه الحدث، لكن مع الأيام وتوالي الليالي وتعاقب الأحوال، ينسى ويسلو وهذا من رحمة الله –عز وجل-، فلذلك ينبغي لنا أن نحرص على النجاح في أول حادثة، أول نزول المصيبة، بأن نصبر، ولذلك رأى النبي –صلى الله عليه وسلم-امرأة عند قبر تبكي كما في الصحيح من حديث أنس فقال لها: «اتقِي الله واصبري» هنا أمرها بالتقوى التي تؤدي إلى الصبر، تقوى الله مراقبته وخشيته وخوفه ومحبته وتعظيمه الذي يؤدي إلى أن يصبر الإنسان، فقالت: "إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي"، يعني ما عرفت النبي –صلى الله عليه وسلم-وقالت هذا الكلام، فلما قيل لها إنه رسول الله جاءته فقالت: يا رسول الله إني لم أعرفك، فقال لها النبي –صلى الله عليه وسلم-مذكرًا بفضيلة المبادرة إلى الامتثال:« إنما الصبر عند الصدمة الأولى»[صحيح البخاري(1283)، ومسلم(926)]، يعني أجره العظيم وثوابه الجزيل، وخيره الكبير، إنما يكون عند الصدمة الأولى.
ولنعلم أن الصبر من أسبابه أن يكون الإنسان قريبًا من الله، مستعينًا بالصلاة، فالله تعالى أمر المؤمنين بأن يستعينوا بالصبر والصلاة لتحقيق المطالب والقيام بالمأمورات واجتناب المنهيات، والصبر على حوادث الزمان ونوازله من المهم أن نبحث عن أسباب الصبر، حتى نفوز بهذا المفتاح الذي هو نصف الإيمان، وهو شطر الدين، وهو مفتاح الجنة.
اللهم اجعلنا من الصابرين، وأفرغ علينا صبرًا يا رب العالمين، وأعنا على طاعتك والقيام بحقك، ويسر لنا السلامة من معاصيك والبعد عما يغضبك، وأعنا على نواب الدهر، وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم مفاتيح، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.