الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد.
فأهلا وسهلا ومرحبا بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم مفاتيح، إنها مفاتيح الجنة، اللهم اجعلنا من أهلها يا ذي الجلال والإكرام، إنها مفاتيح الخير التي بها يدرك الإنسان سعادة الدنيا وفوز الآخرة، "مفاتيح" ما أجملها من كلمة، إذا كانت تفتح أبواب الخير، وتدل على البر، وتوصل إلى السعادة، عندما تملك مفتاح قصر جميل بهي، قد وفِّر فيه ما تشتهي وتحب، فإنك تسعد فكيف إذا ملكت مفتاح جنة عرضها السماوات والأرض، إنها السعادة التي ليس فوقها سعادة.
لذلك لنحرص أيها الإخوة والأخوات ولنجتهد طاقاتنا في أن نملك هذا المفتاح، قبل أن نغادر الدنيا، فإن ملك هذه المفاتيح سعادة في الدنيا، وهو فوز في الآخرة، اللهم اجعلنا من أوليائك وحزبك، اجعلنا من السعداء العاملين بطاعتك القائمين بحقك، مفتاح هذا اليوم هو الحج، ذاك الركن الخامس من أركان الإسلام، الحج مفتاح من مفاتيح الجنة.
ولذلك قال النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-«والحَجُّ المَبْرُورُ ليسَ له جَزَاءٌ إلَّا الجَنَّةُ»[صحيح البخاري(1773)]، ما في شيء يكافئه، ولا يقابله، إلا الجنة، فهو مفتاح من مفاتيح الجنة، وهو نوع من الجهاد كما قال –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-في الصحيح لما قال له النساء: "أفلا نجاهد يا رسول الله؟" نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد يا رسول الله؟ قال: «لكن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة».[أخرجه أحمد في مسنده(25322)، وصححه الألباني في المشكاة(2534)]
إذًا الجهاد هو نوع من العمل الصالح الذي تفتح به أبواب الجنة، والحج منه كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-لكن جهاد لا قتال فيه، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-:«ومن كان من أهل الجهاد» نسأل الله أن يجعلنا منهم «دعي من باب الجهاد»[ صحيح البخاري(1897)، ومسلم(1027)]، الجهاد سنتحدث عنه في نهاية الحلقة لأن له صلة بالحج، إنما نحن نتكلم الآن عن المفتاح الرئيس، وهو ركن من أركان الإسلام الحج، وذكرت الجهاد لأن الحج نوع من الجهاد، وقد ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم-الجهاد في جملة الأبواب التي جاء تسميتها من أبواب الجنة.
إذًا أيها الإخوة والأخوات الحج مفتاح من مفاتيح الجنة، لكن ليس أي حج، إنما هو حج له صفات وهي ما ذكره النبي –صلى الله عليه وسلم-الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، فما هو الحج المبرور، الحج المبرور هو ما كان لله خالصًا، هذا أول أوصاف الحج المبرور، ثم ما كان فيه العبد بهدي النبي –صلى الله عليه وسلم-قائمًا فإن القيام بهدي النبي –صلى الله عليه وسلم-سبب السعادة، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾[الأحزاب: 21]، ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾[الحشر: 7]، وبه يتحقق للعبد قبول العمل، فالعمل يقبل بهذين الشرطين الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-فمن كان يرجو لقاء ربه ماذا يصنع؟ الذي يرجو لقاء ربه لقاء يسرُّ به ويفرح به، ماذا يصنع؟ يصنع هذين العملين أن يكون عمله لله خالصًا، وأن يكون لسيد ولد آدم متبعًا، ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾[الكهف: 110]، ولا يكون العمل صالحًا إلا إذا كان على هديه –صلى الله عليه وسلم-وفق ما جاء به حذو القذة بالقذة، لا تفارق هديه، فهديه أكمل الهدي.
والوصف الثاني أن يكون لله خالصًا، فما كان لله خالصًا، كان مقبولًا، ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا، لا يشرك لا قريب ولا بعيد، لا حي ولا ميت، لا ملك ولا إنسان ولا جن ولا جماد ولا حيوان، عمله كله لله، فالله أغنى الشركاء عن الشرك، لا يقصد بعمله غير الله –عز وجل-بهذا يتحقق للإنسان القبول، فالقبول مبني على هذين الركنين الأساسين اللذين إذا حققهما العبد، فاز بقبول رب العالمين، إنما يتقبل الله من المتقين، فمن تقبله الله رضي عنه، ومن رضي عنه أعطاه عطاء لا حد له ولا وصف.
إذًا الحج المبرور ما كان لله خالصًا، وما كان لهدي النبي –صلى الله عليه وسلم-متبعًا، وتفصيل الهدي هدي النبي –صلى الله عليه وسلم-أن يحرص على أمور.
أولًا: أن يحرص في حجه على أن يكون ذلك الحج في أعماله واجباته وفق ما أمر النبي –صلى الله عليه وسلم-في الأركان وفي الشروط وفي الواجبات وفي السنن، فيحرص قدر طاقته على الأخذ بهديه «خذوا عني مناسككم»[أخرجه البيهقي في الكبرى(9524)، وصححه الألباني في صحيح الجامع(5061)]، فقد قالها –صلى الله عليه وسلم-حثًّا الناس على الاهتداء بهديه، وعدم الترك لسنته «خذوا عني مناسككم» هذا واحد هذا مما يحقق الاتباع للنبي –صلى الله عليه وسلم-
الشرط الثاني من شروط قبول العمل.
أيضًا أن يتجنب ما نهى عنه النبي–صلى الله عليه وسلم-، فقد نهى النبي –صلى الله عليه وسلم-الحاج عن أعمال لا ينكِح المحرم ولا يُنكح، لا يلبس ثوبًا مسه ورث ولا زعفران، لا يتطيب وهذا معنى قوله –صلى الله عليه وسلم-:«لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَمِيصَ، وَلَا الْعِمَامَةَ، وَلَا الْبُرْنُسَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ، وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ وَلَا زَعْفَرَانٌ وَلَا الْخُفَّيْنِ»[صحيح البخاري1177، ومسلم(1177)] ، هذا كله من محظورات الإحرام التي نهى عنها النبي –صلى الله عليه وسلم-فمن تمام الحج أن تنتهي عن محظورات التي حظرها الله تعالى وحظرها رسول الله –صلى الله عليه وسلم-على الحجاج والمعتمرين، حتى تفوز بأن يكون حجك مبرورًا، إنما يكون الحج مبرورًا إذا اجتنبت فيه المحظورات.
هناك طبعا أمران آخران مما يتحقق بهما تمام البر في الحج: أن يكون الإنسان قائمًا بطاعة الله في حجه، في صلاته، في معاملته للخلق، في أدائه للأمانة، في صبره على الناس، في أدائه للحقوق، كل هذه الخصال والخلال هي صفات يتحقق بها الحج المبرور.
أيضًا أن يجتنب المحرمات، فليس صحيحًا أن يحج الإنسان ويقول: أنا حججت وحجي مبرور، وقد اغتاب وسب وشتم ونظر إلى المحرمات، وسمع المحرمات، وأكل المال بالباطل ،كل هذه من الأشياء التي تفوت وصف الحج المبرور، مما ينبغي أن يتحقق في وصف الحج المبرور، أن يكون الحج خالصًا من المال الحرام، بمعنى أن يكون من مال مباح، فلا يأخذ شيئًا من الأموال المحرمة في حجه، لا في مركبه، ولا في أجرة حملته، ولا في مطمعه ومشربه، يتجنب المال الحرام، فالله طيب لا يقبل إلا طيب.
هذه صفات يتحقق بها الحج المبرور الذي قال فيه النبي –صلى الله عليه وسلم-ليس له جزاء إلا الجنة.
إذًا ينبغي لنا أن نحرص على تحقيق هذه الأوصاف، وأهم ذلك وأنا أؤكد وأعيد أهم ذلك أن يكون الحج لله خالصًا لا يرجو به رياء ولا سمعة ولا ثناء ولا مدحًا، ولا أن يوصف بأنه الحاج فلان، ولا الحاجة فلانة، بل يريد من ذلك كله رضا ربه، يتعرض لنفحاته، يتعرض لهباته، يتعرض لعطاياه، فذاك الذي خرج من بيته يرجو الله واليوم الآخر، لا يعود إلا بخير عظيم وبر كبير بصلاح قلبه وسعادة فؤاده، وطمأنينة نفسه هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فسيعود بأجر عظيم وعطاء كبير، إنه العطاء الذي لا حد له ولا وصف، الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، والحج من خصاله وخلاله أنه يحط الخطايا والسيئات، فإنه قد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-كما في الصحيح «مَن حَجَّ هذا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ»[صحيح البخاري(1521)، ومسلم(1350)]، وهنا تأكيد لقوله –صلى الله عليه وسلم-:«والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»[صحيح البخاري(1773)، ومسلم(1349)]، فالبر لا يتحقق إلا بترك الرفث والفسق، فمن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه، خاليًا من الذنوب خالصًا من السيئات، سليمًا من كل المؤاخذات، لذلك لنحرص على تحقيق هذا الوصف ومن صدق الله صدقه الله، فلنصدق الله، ولنصدق في طلب ما عنده عند ذلك سنأخذ عطاء كبيرًا من الله –سبحانه وبحمده-ونفوز فوزًا عظيمًا إذا صدقنا معه جل في علاه، إن الحج هو نموذج لفرض عظيم فرضه الله تعالى على المؤمنين، كتبه على أهل الإسلام وهو الجهاد، ولذلك الحج هو الجهاد الذي وصفه النبي –صلى الله عليه وسلم-«لكن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة»[أخرجه ابن ماجه في سننه(2901)، وصححه الألباني في المشكاة(2534)]، هو جهاد من حيث أن الإنسان يهجر فيه مألوفاته، ويخرج فيه عما اعتاده وما ألفه من مأكل ومشرب ومسكن وما إلى ذلك، كل ذلك رغبة فيما عند الله –عز وجل-وطلبًا للخير الذي عنده جل في علاه، ومنه نعرف أن الجهاد أفضل العمل.
من أفضل العمل الجهاد في سبيل الله، ولذلك قال النبي –صلى الله عليه وسلم-لعائشة يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: «لا» أي: لم يجعل له تعالى الحج مفروضًا على النساء، هذا في جهاد الطلب وفي حال الاغتناء، أما في حال الحاجة، فالجهاد مفروض على كل أحد يدفع عن نفسه، أو ماله، أو عرضه، لكن في حال الاغتناء وفي حال جهاد الطلب، فإنه ليس مفروض على النساء.
لذلك قال –صلى الله عليه وسلم-لعائشة لما قالت: "أفلا نجاهد"، قال –صلى الله عليه وسلم-: «لكن جهاد لا قتال فيه»، أقر النبي –صلى الله عليه وسلم-عائشة لما قالت: نرى الجهاد أفضل العمل، وهو بهذه المنزلة لأن فيه الخروج عن كل مشتهيات النفوس، فيصاحب الجهاد غالبًا الخروج من البلد، الخروج من المال، الخروج من المتع، بذل النفس وهي أغلى ما يملك الإنسان لله –عز وجل-.
ولذلك كان في المنزلة أنه سمي به باب من أبواب الجنة، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-«ومَن كانَ مِن أهْلِ الجِهادِ دُعِيَ مِن بابِ الجِهادِ»[سبق] وجاء عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه قال سمعت أبي وهو يحضره العدو قال –صلى الله عليه وسلم-«إنَّ أبْوابَ الجَنَّةِ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ. فَقامَ رَجُلٌ رَثُّ الهَيْئَةِ، فقالَ: يا أبا مُوسَى، آنْتَ سَمِعْتَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ هذا؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَرَجَعَ إلى أصْحابِهِ، فقالَ: أقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلامَ، ثُمَّ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ فألْقاهُ، ثُمَّ مَشَى بسَيْفِهِ إلى العَدُوِّ فَضَرَبَ به حتَّى قُتِلَ»[أخرجه بهذه القصة الترمذي في سننه(1659)، وحسنه]كل ذلك رغبة في أن يدرك ما قاله النبي –صلى الله عليه وسلم-«إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف».[أخرج هذه الجملة من الحديث البخاري(2818)، ومسلم(1742)]
إذًا الجهاد منزلته عالية، لكن ينبغي أن يعلم أن للجهاد له شروط وأوصاف، لابد أن تتحقق وليس أن يدفع الإنسان بنفسه إلى التهلكة، فليس المقصود من الجهاد الموت، المقصود من الجهاد الحياة، الحياة الكريمة، الحياة السعيدة، الحياة التي يتحقق بها إعلاء كلمة الله، فمن قُتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله، اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، وانصرنا على من عادنا، وأعنا على الطاعة والإحسان، ارزقنا الفوز بالجنان، واجعلنا من أهل السعادة يا ذا الجلال والإكرام، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم مفاتيح، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبر