"قال العلماء : التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى، لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط : أحدها: أن يقلع عن المعصية.والثاني : أن يندم على فعلها.والثالث : أن يعزم ألا يعود إليها أبداً.فإن فُقِد أحد الثلاثة لم تصحَّ توبته.وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة، هذه الثلاثة وأن يبرأ من حق صاحبها"
أما بعد
التوبة هي العبادة التي لا تعرف زماناً ولا مكاناً ولا حالاً، وهي العبادة التي لا تنقطع، ما دام في الإنسان عرق ينبض وعين تلحظ، بل هي العبادة الملازمة للمؤمن والمندوب إليها في كلّ الأحوال، على مرِّ العصور والأيام والليالي؛ لذلك أمر الله تعالى بها الناس جميعاً، وخصَّ المؤمنين بالذِّكر فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} التحريم: 8.
التوبة في اللغة هي الرُّجوع والأوبة، فيُقال: تاب إلى الشيء أي رجع إليه.
وتستعمل في الاصطلاح، على معنى خاص، وهو: ترك المعصية والانتقال إلى الطاعة.
التوبة درجات، وأوّل هذه الدرجات أن يندم الإنسانُ على الذنب، ولذلك جاء فيما رواه أحمد وابن ماجه وغيرهما، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، كما جاء في صحيح ابن حبان من حديث أنس رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((النَّدم توبة)) مسند أحمد (3568)، سنن ابن ماجة (4252)، صحيح ابن حبان (613). ، أي أنَّ ألم القلب على المعصية من ترك واجب أو فعل محرم، يُعدّ توبة، وفي هذا بيان لأهم مهمات التوبة، وكونها تنبعث من ألم القلب لمخالفة أمر الرَّبِّ، فهذه هي حقيقة التوبة.
وعندما يتألم القلب على مخالفة أمر الربّ جلَّ في علاه، تنتابه حال شريفةٌ، تحمله على فعل الخيرات، وترك المنكرات، ابتداءً من الإقلاع عن المعصية الرّاهنة، وانتهاءً بالعزم على ألا يعود إليها، وبهذا يتبين أنَّ مفتاح التوبة هو الندم، فمن ندم على ما كان من معصية، وصدق ندمه، فإنَّ ذلك يحمله على الارتقاء في درجات التوبة، وإتباع السّيّئات بالحسنات، عسى أن تمحوها.
وردت في السنة المطهرة كثير من الأعمال الصالحة، يكفّر الله بها الخطايا ويمحو الذّنوب، فمن ذلك:
-الإسلام والهجرة والحجّ:
كما في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: ((فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الإِسْلاَمَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعْكَ. فَبَسَطَ يَمِينَهُ - قَالَ - فَقَبَضْتُ يَدِى. قَالَ: « مَا لَكَ يَا عَمْرُو ». قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ.قَالَ « تَشْتَرِطُ بِمَاذَا ». قُلْتُ أَنْ يُغْفَرَ لِى. قَالَ «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ» صحيح مسلم (336).
-الصلاة المكتوبة والجمعة وصوم رمضان:
وورد في ذلك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلاة المكتوبة إلى الصلاة التي بعدها كفارة لما بينهما. قال: والجمعة إلى الجمعة، والشهر إلى الشهر، يعني رمضان إلى رمضان كفَّارة لما بينهما)) مسند أحمد (7129)، صحيح ابن حبان (1734).
فهذه الأعمال كلّها تشترك في أنها يعود المرءُ بعدها طاهراً من الدّنَس، ولكنّ كلّاً منها يتميّز بأنه مؤقت بوقتٍ معيّن من العمر أو العام، فالإسلام والهجرة كلاهما مرّةٌ واحدة في العمر، والحجّ مرة واحدة في العام، وشهر رمضان كذلك، والصلوات الخمس وإن تكرّرت يوميّاً، لكنها رهينةٌ بأوقاتٍ معيّنة. وأيضاً فالعلماء مختلفون، فيما إذا كان التكفير بالحجّ والعمرة والجمعة ورمضان، يشمل الصغائر والكبائر أو لا يشمل إلا الصغائر فقط.
أمّا التوبة فإنها العبادةُ الحاضرة دوماً مع صاحبها، في كل حالٍ وفي كل وقت، والتي تُكفَّر بها كل الخطايا، صغيرها وكبيرها، كما تكون في حق الله وفي حق الخلق، على حسب ما يبذل التّائب من الاجتهاد في أن تكون توبته صادقةً، فهي أعظم ما يمحو الله تعالى به الخطايا، ولهذا أمر الله تعالى بها الأوَّلين والآخرين، وأثنى على عباده التوابين وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} البقرة: 222، 223 وأثنى الله تعالى بها على المرسلين، فوصفهم بأنهم توابون وأوابون ومُنيبون، الأمر الذي يدلّ على منزلتها وشريف مقامها وعظيم مكانتها.
التوبة عبادة واجبة وفريضة لازمة، على كلِّ مؤمن ومؤمنة، في كل زمان وفي كل مكان وفي كلِّ حال؛ وذلك لأنَّها تتعلّق في المقام الأول، بالتّقصير في القيام بحقّ الله عزّ وجلّ، وما يستحقُّه جلّ وعلا من العبوديَّة الخالصة، فالمؤمن يتوبُ إلى الله عز وجلّ، إذ لم يرعَ حُرمته، وانتهك ستره، وتورّط في معصيته، يقول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الأنعام: 91 ، ثمّ تتعلّق التوبة بالمعصية التي اقترفها التائب، سواءٌ تمثّلت في ترك الواجبات أو في التَّورُّط في المحرمات.
وممّا يدلّ على هذا الوجوب: قول الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} النور:31 ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} التحريم:8 .
وسواء في ذلك الكفار والمسلمون العاصون، فقد قال الله تعالى بعد ذكر عقيدة اليهود والنصارى: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} المائدة:74 .
كما ورد في السنة النبويّة الأمر بالتوبة، والحثُّ عليها والحضُّ، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)) رواه الإمام أحمد (17880)، وصححه الأرنؤوط.
إذن فالتوبة عبادة واجبة، من جميع الذُّنوب، صغيرها وكبيرها، ظاهرها وباطنها، لا خلاف بين العلماء في ذلك، لعموم الآيات والنصوص، ولأنَّ الذَّنب سبب للمؤاخذة، والتوبةُ تهدم الذنب وتُزيل المؤاخذة والمعاقبة عليه.
ما ذكره العلماء من شروط التوبة، كلها خطوات لتحقيق ذلك الندم الذي هو أساس التوبة، وقد ذكر النَّوويُّ رحمه الله أنَّ التوبة إذا تعلّقت بحقٍّ لله تعالى، فإنّها تكون بشروط ثلاثة:
الأول: الإقلاع عن الذّنب في الحال.
والثَّاني: النَّدم على ما فات.
والثَّالث: العزم على عدم العودة.
وهذه الثلاثة كلها دائرة على الندم، فالإقلاع عن الذّنب، والعزم على عدم العودة إليه، لن يتحقّقا إلا إذا كان هناك ندم، أي ألمٌ بالقلب ناشئ من شعور المرء بعظم ما ارتكبه من ذنب، وكلُّ ذنبٍ في مقام التوبة عظيم.
ما الذي يحمل قلبَ المؤمن على النّدم على المعصية صغيرةً كانت أو كبيرة؟
بواعث الندم ودوافعه كثيرة، نذكر منها:
أولاً: معرفةُ قدر الله عزّ وجلّ، وتعظيمه ومحبته -سبحانه وبحمده- أعظمُ باعثٍ على النّدم، فإنّ معرفة قدر من عصيته، تحمل على النّدم.
ثانياً: مشاهدة العقوبة التي رتبها الله على العصيان، والتفكر فيها، فإنَّ من حقَّق في نفسه أنَّ المعصية طريقُ النار، وأنَّ النَّار عظيمة الألم شديدة العقوبة والنّكال، كان ذلك حاملاً له على الندم.
ثالثاً: معرفة شؤم المعصية في الدنيا قبل الآخرة من ضيق الصدر والقلق المُمِضّ.