المقدم: شيخ خالد حديثنا في هذه الحلقة ونحن أيضًا نستعد لاستقبال ضيفٍ كريم هو شهر رمضان، نريد أن نتحدث عن الإخلاص، هذه المفردة باشتقاقاتها والتي وردت في كتاب الله كثيرًا، نريد أن نتحدث عن الإخلاص في الأقوال والأعمال كيف يتحقق وما أثر الإخلاص إذا تحقق.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على البشير النذير والسراج المنير نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
الإخلاص هو في اللغة مأخوذٌ من الخلوص وهو النقاء من كل شوبٍ وكدر، فالشيء الخالص هو الناقي من كل ما يكدره أو يشوبه، فلبنٌ خالص أي خالص وخالي من كل ما يمكن أن يكون سببًا لكدره وعدم استساغته وكذا الماء وكذا سائر الأمور توصف بهذا الوصف إذا كانت خالصة مما يكدرها، العبد مأمور بالإخلاص؛ لأن الله ـ تعالى ـ قد قال: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾[البينة:5]، والإخلاص هنا وصف للعبادة، وهو أن تكون العبادة ليس فيها ما يكدرها مما يكون سببًا لعدم قبولها.
ولما نقول الإخلاص في العبادة فنحن نقصد أن تكون العبادة لا يقصد بها إلا الله ـ جل وعلا ـ ولهذا جاء في السنن من حديث أبي أمامة أن رجلًا سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل يبتغي الأجر والذكر، الأجر أمر يتعلق بالعبادة وهو ثمرتها ونتاجها، والذكر وهو ما يتصل بثناء الناس ومدحهم، ما له؟ يسأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي شيءٍ له؟ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لا شيء له»، أعاد الرجل فقال يا رسول الله الرجل يقاتل والقتال هو أشد وأشق ما يكون من العبادات، لذلك قال ـ تعالى ـ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾[البقرة:216].
ما له؟ يقاتل لأجل الأجر والذكر، قال: لا شيء له، أعاد الرجل المسألة الثالثة؛ لأن المسألة مستقرة في ذهنه أنها تحتاج إلى إيضاح وبيان، قال: يا رسول الله الرجل يقاتل في سبيل الله يريد الأجر والذكر ما له؟ قال: «لا شيء له، إنما يتقبل الله من العمل ما كان خالصًا، وابتغي به وجهه»سنن النسائي (3140).
قوله: «وابتغي به وجهه» هذا بيان وإيضاح لمعنى الإخلاص وهو أن يكون مما ابتغي به وجه الله ـ تعالى ـ لا يرجو من الناس جزاءً ولا شكورًا، وهذه مرتبة عالية رفيعة، من بلغها فقد حقق العبودية لله ـ تعالى ـ هي تكون في معاملة الله ـ تعالى ـ في العبادات، في الصلاة والصيام والزكاة والحج، وهي تكون أيضًا في معاملة الخلق كما قال ـ تعالى ـ:﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾[الإنسان:9].
وهذا يدل على علو المرتبة وارتفاعها وأن الإنسان يخرج عن حظ نفسه، يخرج عن أن يطلب من الناس ثناءً ومدحًا، إنما هو يطلب الأجر والثواب من الله، إنما يفعل هذا لله وحده لا شريك له، وبهذا يتحقق الإخلاص، ولذلك يفوز الإنسان بإخلاصه بأعلى الدرجات حتى لو كان العمل قليلًا ولهذا إكسير العمل الذي ترتفع به الدرجات وتعلو به المنازل ويسبق به الإنسان غيره من الناس إنما يكون بالإخلاص.
فالإخلاص عمل قلبي، قد يكون هناك اثنان على عمل واحد في ظاهره بينهما في الأجر والثواب كما بين السماء والأرض في فضلٍ وفي رجحان، هذا كما يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ في نونيته:
وتفاضل الأعمال يتبع ما في قلب صاحبها من البرهان.
هذا يقول: حتى يكون العاملان كلاهما في رتبةٍ تبدو لنا بعيان هذا وبينهما كما بين السماء والأرض في فضلٍ وفي رجحان.
إذًا الإخلاص قضية يسبق فيها الإنسان غيره ويحصل له بها من الزكاة والوقاية من الشرور ما ليس على خاطره، تدري يا أستاذ عبد العزيز أن الإخلاص من أعظم أسباب الوقاية من أخطار الدنيا، الله ـ تعالى ـ يدفع عن العبد بسبب إخلاصه، يقول الله ـ جل وعلا ـ في يوسف ـ عليه السلام ـ في تعليل وتبرير ما جرى له من الوقاية أو الحماية ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلِصِينَ}[يوسف:24]، في قراءة، وفي قراءة المخلَصين، وكلاهما واضح فالمخلَصين نتيجة، والمخلِصين هو العمل، لما كان مخلَصًا أخلص أي أن الله اصطفاه ووقاه الشرور والأخطار.
ولذلك ينبغي للعبد أن يتحرى الإخلاص، والإخلاص يعني دواعيه وموجباته كثيرة من أعظمها أن الله لا يقبل العمل إلا إذا كان خالصًا هذا واحد، ثانيًا: أن الأجر يتضاعف بقدر ما مع الإنسان من الإخلاص، ثالثًا: أن ما يصبو إليه ويرجوه من ثناء الناس ومدحهم يزول ويضمحل فيحصله إذا قصد غير الله ـ تعالى ـ لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتغي به وجهه، وإذا كان كذلك فغيره من الأعمال يكون غير مقبول وبالتالي لن يجد عند الناس ودًا ولا ثناءً حتى الثناء والود يضمحل وينكشف الغطاء.
والله ـ تعالى ـ قد قال: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه مع غيري تركته وشركه»صحيح مسلم (2985)، والإخلاص موضوع ذو شجون لكن كيف نحقق الإخلاص؟ حتى لا نطيل في التفاريع.
نحقق الإخلاص بإدراك أن الله إنما أمرنا بعمل إذا كان، إنما يتقبل الله من العمل ما كان خالصًا هذا واحد، فلا يقبل الله ـ تعالى ـ عملك إذا لم تكن مخلصًا، ثانيًا يتحقق الإخلاص بأن تعلم أن من تقصدهم لن ينفعوك، ولهذا في الثلاثة الذين أول من تسعر بهم النار يوم القيامة هذا كما في حديث أبي هريرة كلهم يجتمع في أنه قصد بعمله غير الله ـ تعالى ـ فقارئ القرآن قرأ ليقال قارئ، والمقاتل قاتل ليقال جريء، والمنفق أنفق ليقال منفق كريم، وكلهم حصلوا هذا في الدنيا لكن ما الذي حصله في الآخرة أنهم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة.
ولهذا ينبغي للمؤمن أن يتقِ الله ـ تعالى ـ وأن يعرف أنه لن ينفعه الناس، الذي يرحل معك هو عملك، مدح الناس وثناؤهم يذهب ويضمحل، ومن أراد أن يذكر فلن يذكر، ومن أراد أن يعلو على الخلق بالعبادة فستكون النتيجة السفول والنزول، ولذلك قال الله ـ تعالى ـ:﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾[النساء:145]، لماذا لم يكن المشركون في الدرك الأسفل؟ لأن هؤلاء تلبسوا في الصورة بالمؤمنين وخلت قلوبهم من أعمالهم، خلت قلوبهم من الإيمان، خلت قلوبهم من اليقين، فكانوا في الدرك الأسفل من النار، حصلوا فيما تقع عليه أعين الناس حصلوا شيئًا من الثناء والمدح لكنهم لم يحصلوا أجرًا ولا ثوابًا، بل كانوا في الدرك الأسفل من النار.
إذًا لا بدَّ أن يسعى الإنسان إلى الإخلاص في قوله وفي عمله وفي سائر شأنه، وإذا حقق الإخلاص سبق سبقًا كبيرًا وفاز فوزًا عظيمًا.
المقدم: أحسن الله إليكم، أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، وكما قيل إذا خلت النصيحة حين تسدى من الإخلاص مجتها القلوب، الإخلاص في كل شيء، أحسن الله إليكم يا شيخنا ننتقل إلى أسئلة الأخوة والأخوات هنا سؤال يا شيخ باعثه من اليمن فيه شيء من القنوط يقول: كيف أتوب؟ يسأل عن التوبة حيف تتحقق؟ ويقول: أريد أن أواظب على الصلاة ولكن هل ربي سيعفو ويغفر لي ما مضى من ذنوب؟
الشيخ: ما الذي يحول بينه وبين التوبة هذا مثل ما وصفت أنت، هل الله يغفر؟ نعم، الله تعالى يقول ولم يدعوا المؤمنين، لم يدعوا أهل الطاعة والإحسان، إنا دعا المسرفين ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾[الزمر:53]، فمعنى هذا أنه ينبغي للمؤمن أن يبادر إلى هذا الفضل من عطاء الله عز وجل وأن لا يحول بينه وبين التوبة بهذه العوائق الوهمية، الله يحب التوابين، الله يعطي التوابين ما لا يعطي غيرهم.
الله يفرح بتوبة العبد كما جاء في الصحيح من حديث أنس «لله أفرح بتوبة أحدكم من رجل كان على راحلته فضلها في الصحراء» ثم إنه لم يجدها، فذهب إلى شجرة فوضع رأسه تحت الشجرة ينتظر الموت فإذا براحلته لما استيقظ فوق رأسه عليه زاده ومتاعه فقال من شدة الفرح «اللهم أنت عبدي وأنا ربك»صحيح مسلم (2747) أخطأ من شدة الفرح.
وهذا بيان لعظيم فضل الله ـ تعالى ـ بتوبة العبد، فينبغي يا أخي أن تترك هذا الوسواس وهذا العائق وأن تقبل على التوبة لا سيما ونحن نقبل على هذا الشهر المبارك، مع أن التوبة ليس لها زمان ولا مكان ولا حال، بل هي يحتاج إليها الطائع والعاصي، يحتاج إليها المستقيم والمنحرف، يحتاج إليها الإنسان في الصباح والمساء، ولذلك كان يكثر منها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كل حين، بل أمر الله ـ تعالى ـ بها المؤمنين فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾[التحريم:8].
المقدم: أحسن الله إليكم.