الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمد وعلى آله وصحابه أجمعين، ومن اتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين:"ويجب أن يتوب من جميع الذنوب، فإن تاب من بعضها صحت توبته عند أهل الحق من ذلك الذنب، وبقي عليه الباقي، وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة. قال الله تعالى : (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) .وقال تعالى : (استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ) .وقال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحاً )."
أما بعد
الأصل في التوبة أن تكون عامة من كل شيء، كما قال الله تعالى : (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون)، فالتوبة تكون من كل ذنب صغير أو كبير ظاهر أو باطن فيما يتعلق بحق الله وفيما يتعلق بحق الخلق؛ فينبغي إذا قال المؤمن: "أستغفر الله وأتوب إليه" أن يستحضر ما أمكنه ذنوبه أو عامّة ذنوبه، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان في دعائه يقول: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى ذَنْبِى كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَعَلاَنِيَتَهُ وَسِرَّهُ)) وما أشبه ذلك من الأدعية المأثورة التي فيها التوبة من جميع الذنوب، فإذا تاب الإنسان توبةً استحضر فيها جميع ذنوبه كان ذلك مطابقاً لما ينبغي ولما يجب، أمّا إذا تاب توبةً عن ذنب دون ذنب، كأن يتوب مثلاً: عن الغيبة ويستمرَّ في النظر المحرم، فهل تُقبل توبته؟
الصحيح من قولي العلماء: أن الإنسان إذا تاب من ذنبٍ وأصرَّ على آخر، فإن إصراره على ذلك الذنب لا يمنع توبته مما تاب منه، فالله كريم منَّان ولذلك جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم - فِيمَا يَحْكِى عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: ((أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى ذَنْبِى. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِى ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَي رَبِّ اغْفِرْ لِى ذَنْبِى. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِى أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَىْ رَبِّ اغْفِرْ لِى ذَنْبِى. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِى ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ.)) أخرجه البخاري (7507) ومسلم (7162). ففي الحديث حثٌّ وحفز على التَّوبة، فلا ريبَ أنَّه إذا تاب الإنسان من ذنبٍ معين، فإن الله تعالى يغفره، وإن بقي التائب مصرّاً على ذنوبٍ أخرى، فليبادر المؤمن بالتوبة من كل صغير وكبير، فإذا كان الإنسان ابتُلي بذنب تعلق به قلبه ولم يتمكن من الخلوص منه بالتوبة فلا يمنعه هذا من التوبة من سائر الذُّنوب الأخرى.
الاستغفار ذكرٌ يقوله المؤمن في كلِّ أوقاته وأحواله، طالباً المغفرةَ من الله عزّ وجلّ، ويدلّ في أصله على معنيين: إرخاء السِّتر على العبد، ووقايته من شرِّ الذَّنب فلا يُعَاقب عليه، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُكثر من الاستغفار، وقد روي عن ابن عمر قال ((إن كنا لنَعُدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم- فى المجلس الواحد مائة مرة: ربِّ اغفر لي، وتب عليَّ، إنَّك أنت التَّوَّاب الرَّحيم)) سنن أبي داود (1518)، سنن الترمذي (3434). ، فالاستغفار ذكرٌ يطلب فيه العبدُ من الله عز وجل أن يغفر الذنب وأن يستره؛ وقد يكون مقارناً للتوبة، وهو أن يقول الإنسان "أستغفر الله" مستحضراً للذّنب أو الذّنوب، مقلعاً عنه، عازماً على ألا يعود إليه، وقد يكون مجرداً عن التوبة، كحال من يستغفر وهو والغٌ في المعصية، وكلاهما يؤجَر عليه الإنسان؛ لكن الاستغفار التَّام الكامل هو المقترن بتحقيق التَّوبة وشروطها.
فعلاقة التوبة بالاستغفار علاقة وثيقة، فكلٌّ منهما يُعتبر سبباً من أسباب حطِّ السَّيِّئات -إلى جانب بلايا الدُّنيا ومصائبها، وعذاب القبر، وأهوال يوم القيامة- بيد أنّهما من أعظم أسباب محو الخطايا، لما يترتّب عليهما من جزيل الأجر والثَّواب.
لكن رغم العلاقة الوثيقة بين الاستغفار والتوبة، فهما ليسا شيئاً واحداً، إذ يتعلق الاستغفار بطلب المغفرة خاصّةً، بينما تتعلّق التوبة بالنَّدم على ما كان من إساءةٍ وتقصير، إذن فالفرق بين الاستغفار والتَّوبة إذا اجتمعا، يتمثّل في أنَّ الاستغفار يتعلَّقُ بماضي الزَّمان، والتوبة تتعلَّق بماضيه وحاضره ومستقبله، فهي تقتضي النَّدم على ما كان، والإقلاع عنه في الحال، والعزم على عدم العودة إليه في مستقبل الأيام، ولذلك جمع الله تعالى بين الاستغفار والتوبة في قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)} هود: 90 .
وعموماً فالاستغفار بذاته لا يكون توبةً، ولكن التوبة تشمل الاستغفار من الذنوب والمعاصي.