"عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة )) صحيح البخاري (6307).
" وعن الأغرِّ بن يسار المُزَني رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيُّها النَّاس توبوا إلى الله، فإنِّي أتوبُ في اليوم مئة مرة)) صحيح مسلم (2702).
المقدّمة:
في هذين الحديثين الشَّريفين حثٌّ بليغٌ على التوبة والاستغفار، وتحريض للأمة على الاجتهاد فيهما، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، يستغفر الله ويتوب إليه، فجدير بكلّ عاقلٍ أن يجتهد في ذلك.
قال ابن بطال : الأنبياء أشد الناس اجتهادًا في العبادة ، لما أعطاهم الله تعالى من المعرفة ، فهم دائبون في شكره، معترفون له بالتقصير.
معاني الحديثين:
*قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله، إني لأستغفر الله وأتوب إليه)):
أكّد الرسول صلى الله عليه وسلم مضمون الخبر الذي يتضمّنه هذا الحديث الشريف، بثلاث أنواع من المؤكّدات:
الأول: هو القسم بالله عزّ وجلّ.
والثاني: هو أن جعل صدر جواب القسم مؤكّداً بحرف التوكيد "إنَّ".
والثّالث: هو لام التوكيد المتّصلة بالفعل "أستغفر".
وهذا التوكيد ينبّه الذّهن إلى أهميّة وخطر مضمون الخبر.
وقوله: ((لأستغفر الله)): أي أطلب منه المغفرة والغفر، (والأصل في الغَفْر التَغْطِيةُ، ومنه سمّي المِغْفَرُ لأنه يَغفِر الرأسَ أي يلبسه ويُغطّيه. قال (الأصمعي): والمغفرة من الذنوب كذلك أيضاً إنّما هو إلباس الله الناسَ الغُفرانَ وتغمّدُهم به) غريب الحديث لابن سلام (3/348).
وقوله: ((وأتوب إليه)): التوبة كما تكون عن التقصير والمعصية والخطأ، تكون كذلك عن القصور وعدم الوفاء بحق الله وما يستحقُّه من الإجلال والتعظيم، والشُّكر والثّناء، وهذا هو معنى توبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، قال: ((قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ! قَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا)) صحيح البخاري (4836)، صحيح مسلم (2819)
وهنا نفهم السّرّ في توكيد مضمون الخبر بالقسم وأداتي التوكيد "إنّ" و"اللام"، وهو الظّنُّ بأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم، ليس بحاجةٍ إلى أن يستغفر ربّه، كيف وهو الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)} الفتح: 1، 2 وليس بحاجةٍ إلى أن يتوب إلى الله، كيف وهو الذي أدّبه فأحسن تأديبه!
فالسّر في توكيد مضمون الخبر، هو إزالة هذا الظّنّ، وتوكيد أنه صلى الله عليه وسلم، يستغفر ربّه استغفاراً، ويتوب إليه توبةً، بما هو لائق بمقامه الرّفيع، كما أنّ الاستغفار قد شُرع عقب كثيرٍ من العبادات والطاعات، كما في قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} الذاريات فقد كان هؤلاء على عبادة وطاعة يختمونها بالاستغفار، وكما في قوله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} سورة النصر .
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أستغفر الله وأتوب إليه)) فيه وجهان ذكرهما العلماء:
-أنه صلى الله عليه وسلم يقول هذا اللفظ: "أستغفر الله العظيم وأتوب إليه" أو "استغفر الله الذي لا إله إلا هو وأتوب إليه" أي أنه يذكر الاستغفار والتوبة في الذكر الذي يقوله.
- أنه صلى الله عليه وسلم يستغفر الله ويتوب إليه، قولاً وفعلاً، فيقول "أستغفر الله" مستحضراً معاني القصور والتقصير، عن الوفاء بحقوق الله عزّ وجلّ، ومجتهداً في العبادة.
ولا تعارض بين هذين الوجهين، فكلاهما صحيح، يوضح ذلك بقيّة الحديث:
*قوله صلى الله عليه وسلم: ((في اليوم أكثر من سبعين مرة)): أي أنَّ عمل النبي صلى الله عليه وسلم، في الاستغفار والتوبة، على مدار اليوم الواحد كثيرٌ، فهو: ((أكثر من سبعين مرة)) أي أكثر من هذا العدد "سبعين" إذا كان مقصوداً بقيمته العدديّة، وإلا فإنّ العرب تطلق السبع والسبعين والسبعمئة من أجل الدلالة على العدد الكثير دون إرادة عين العدد، وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إني لاستغفر الله في اليوم مائة مرة)) سنن الترمذي (3259)، سنن ابن ماجة (3815)، مسند أحمد (23421)، صحيح ابن حبان (926) كما جاء عنه في رواية ابن عمر رضي الله عنه قال:((إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ: رَبِّ اغْفِرْ لي وَتُبْ عَلَىّ،َ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) سنن أبي داود (1518)، سنن الترمذي (3434)، صحيح ابن حبان (927). وهذا يدل على أنَّ أدنى عددٍ يكون من استغفاره وتوبته صلى الله عليه وسلم، في اليوم الواحد، هو مائة مرّة، فهو صلى الله عليه وسلم كثير الاستغفار، وهذا يدل على أن الاستغفار لا غنى للإنسان عنه، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستغفر في اليوم أكثر من سبعين مرة، فمن سواه أجدر بأن يفعلوا ذلك، وليس أحد مستغنٍ عن التوبة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)) سنن الترمذي (2499)، سنن ابن ماجة (4251)، مسند أحمد (13049)، المستدرك (7617).
*قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأغر المُزني رضي الله عنه: ((يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مئة مرة))
فيه حضٌّ وتحريض على الإكثار من التوبة، وأن الناس جميعاً بحاجة إليها، والفارق بين معنى الحديث الأول حديث أبي هريرة، ومعنى الحديث الثاني حديث الأغر المُزني، هو أن الحديث الأول: بيّن ما هو عليه صلى الله عليه وسلم من كثرة الاستغفار. بينما في الحديث الثاني: أمر صلى الله عليه وسلم النّاس كافة بأن يكثروا من التوبة والاستغفار، وليس في أدعية النبي صلى الله عليه وسلم تطويل وتفصيل كما في أدعية الاستغفار، فقد جاء عنه في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه، وجُله، وأوله وآخره وعلانيته وسره)) صحيح مسلم (483). كما روي من حديث أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي: خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وَخَطَايَايَ وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي)) صحيح البخاري (6399)، صحيح مسلم (2719) فهذا يدل على أنَّ مقام الاستغفار مقام إطالةٍ وافتقار إلى رحمة العزيز الغفّار، فلا غنى للإنسان عن رحمة مولاه ومغفرته، لذا فليُكثر المؤمن من قول: "استغفر الله العظيم" مستحضراً ما اقترفه من الذّنب والمعصية، ليكون كذلك محقّقاً لمقام التوبة، نادماً ومقلعاً عن الخطيئة والتقصير.
من فوائد الحديثين:
-أنّ الإنسان لا يستغني عن الاستغفار والتوبة مطلقاً، وذلك لأن الاستغفار والتوبة كما يكونان من المعاصي والذنوب، يكونان كذلك من التقصير في حقّ الله تعالى، وما يستحقُّه من الشكر والإجلال والتعظيم، ولذا كان الأنبياء أشدَّ الناس اجتهاداً في عبادة الله عز وجلّ.
-أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يُكثر من الاستغفار والتوبة، في كلّ أوقاته وأحواله، وأنّ أدنى عددٍ من ذلك يقوم به، هو أن يستغفر ربّه ويتوب إليه مائة مرّة في اليوم.