الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين: "وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره، وقد أضلَّه في أرضٍ فلاة)) صحيح البخاري (6309).
المقدّمة:
الحمد لله ربِّ العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه حديثٌ رواه جماعة من الصَّحابة، يتضمّن بيانَ ما للتَّوبة من المكانة الكبيرة، وأنها مدعاةٌ لفرح الله عزّ وجلّ بعباده التّائبين إليه؛ ولذلك قال بعضُ أهل العلم: التَّوبة أصل العبادات وأساسها، ولا غنىً لأحدٍ عنها.
معنى الحديث:
قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لله أفرحُ بتوبة عبده)) أي إنّ الله عزّ وجلّ، يفرح برجوع عبده إليه، وإنابته وتركه للمعصية وإقباله على الطَّاعة، فرحاً يليق بعظمته وجلاله سبحانه وبحمده، فرحاً عظيماً، فرحَ لطف وإحسان وكرم، وليس فرحَ حاجة، فالله جلَّ وعلا غنيٌّ عنَّا وعن عباداتنا وعن كل ما يكون منَّا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} فاطر: 15، 16، فهو يفرح بتوبة عبده؛ لأنّ التّوبة سبيلُ العبد إلى النّجاة والخروج من الهلكة.
وأكّد الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، هذا الفرح الإلهيّ بإضافة لام التَّوكيد إلى اسم الجلالة، ثم وصفه باستعمال صيغة التَّفضيل ((أفرحُ))، وفي رواية مسلم: ((لله أشدُّ فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم)) وصيغة التفضيل تقتضي ذكر مفضّلٍ عليه.
قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((من أحدكم)) أي من أيّ واحدٍ منكم، هذا هو المفضّل عليه، فالرّسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يوضّح هذا الفرح الإلهيّ العظيم، عبر تمثيله ومقارنته بمثال إنسانيّ يُقرّبه لشعورنا.
قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((سقط على بعيره، وقد أضلَّه في أرضٍ فلاة)) أي: هذا الشّخص وجد بعيره الذي كان قد ضاع منه، وهو في جوف صحراءَ قاحلةٍ، ليس فيها بيت يؤويه، ولا ماء يرويه، ولا غذاء يُغذّيه، وجاء تفصيل هذه الجملة، في رواية الإمام مسلم للحديث، حيث ورد أنّ هذا الرجل: ((كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامُه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرةً فاضطجع في ظلها، وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها، ثم قال من شدَّة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)) صحيح مسلم (2747).
فلنتأمّل في حال هذا الرجل، بعد ما يئس من وجدان راحلته، فاضطجع تحت ظلّ الشَّجرة مستسلماً لمصيره، وقد ورد في بعض الروايات أنّه وضع ((رأسه فنام نومةً فاستيقظ وقد ذهبت راحلتُه، فطلبها حتى إذا اشتدَّ عليه الحرُّ والعطش قال: أرجعُ إلى مكاني الذي كنتُ فيه فأنام حتى أموت)) صحيح الجامع الصغير وزيادته (5033 - 1594 -)، وأصله في البخاري (6308).
ثمّ: ((فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها، ثم قال من شدَّة الفرح: اللَّهمَّ أنت عبدي وأنا ربُّك، أخطأ من شدَّة الفرح))! فتأمّل ما أشدّ فرح الإنسان في مثل هذا الموقف العجيب، وقد نجا بفضل الله عزّ وجلّ من هذه المهلكة! ففرحُ الله تعالى بتوبة عبده حين يتوبُ إليه، أشدُّ من فرح هذا الرجل بناقته حين تعود إليه!
فوائد الحديث:
-يُفيد هذا الحديثُ اتِّصافَ الله تعالى بالصفات الاختيارية، كالفرح والغضب، على وجه يليق به سبحانه وبحمده، وبابُ صفات الله عز وجل ليس فيه مدخل للعقول، إلا أن تتلقّى فيه ما ورد عن الله عزَّ وجلَّ وعن النبي صلى الله عليه وسلم، فتُثبت ما أثبته الله لنفسه على وجه يليق به سبحانه، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} الشورى: 11.
- مثَّل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حال العاصي، من حيث انقطاع الهداية وترك سلوك الطريق المستقيم، بالرجل الذي في الصحراء ليس معه مأكل ولا مشرب ولا زاد ولا طعام ولا راحلة ولا مأوى، فالهلاك مصيره المحقّق، فلينتبه العصاة إلى حقيقة حالهم، إذ يحيط بهم شؤم المعصية في الدنيا والآخرة، ويوشك أن يقع بهم الهلاك.
- أنَّ التوبة نجاة من الهلاك بشؤم المعصية في الدنيا والآخرة، فأكمل النّاس عبودية وأعظمهم سعادة، هم أكثر النّاس استغفاراً وتوبة، فبقدر ما معك من التوبة والاستغفار، يكون لك من السعادة والطمأنينة والنجاة والانشراح والبهجة والسُّرور في حياتك.
- أنَّ من تكلَّم بكلمةٍ لا يريد معناها، فقال بلسانه ما ليس في قلبه، فإنه لا يؤاخذ بذلك، سواء كان ذلك فيما يتعلق بحقِّ الله أو فيما يتعلق بحقِّ المخلوقين، وسواءٌ كان سببُ هذا الخطأ هو شدَّة فرح، أو شدَّة خوف، أو شدَّة غضب ولم يُرده بقلبه فإنه لا يؤاخذ به، وذلك كحال من نطق بكلمة الطلاق لزوجته، وهو لا يقصد ذلك بقلبه، فكل الأقوال والأفعال لا يؤاخذ بها إلا بالقصد والإرادة، كما يقول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)} البقرة: 225 وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)} الأحزاب: 5. لكن يكون المرء ملزماً بضمان ما يترتّب على سلوكه من التّلف في أموال الناس.