وقوله: (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ) أي: هذه السورة أو العظة، وكلاهما متلازم، بل جميع القرآن (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ) أي: معظمة موقرة (مَرْفُوعَةٍ ) أي: عالية القدر، (مُطَهَّرَةٍ ) أي: من الدنس والزيادة والنقص .
وقوله: (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ) قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد: هي الملائكة. وقال وهب بن منبه: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة: هم القراء. وقال ابن جريج، عن ابن عباس: السفرة بالنبطية: القراء.
وقال ابن جرير: الصحيح أن السفرة الملائكة، والسفرة يعني بين الله وبين خلقه، ومنه يقال: السفير: الذي يسعى بين الناس في الصلح والخير، كما قال الشاعر:
ومَا أدَعُ السّفَارَة بَين قَومي ... وَما أمْشي بغش إن مَشَيتُ
وقال البخاري: سَفَرةٌ: الملائكة. سَفرت: أصلحت بينهم. وجعلت الملائكةُ إذا نزلت بوَحْي الله وتأديته كالسفير الذي يصلح بين القوم.
وقوله: (كِرَامٍ بَرَرَةٍ ) أي: خُلقهم كريم حَسَنٌ شريف، وأخلاقهم وأفعالهم بارة طاهرة كاملة. ومن هاهنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد.
قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا هشام، عن قتادة، عن زُرَارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه وهو عليه شاق له أجران". أخرجه الجماعة من طريق قتادة، به.
{قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ (32)}
يقول تعالى ذاما لمن أنكر البعث والنشور من بني آدم: (قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ) قال الضحاك، عن ابن عباس: (قُتِلَ الإنْسَانُ ) لعن الإنسان. وكذا قال أبو مالك. وهذا لجنس الإنسان المكذب؛ لكثرة تكذيبه بلا مستند، بل بمجرد الاستبعاد وعدم العلم.
قال ابن جرير (مَا أَكْفَرَهُ ) ما أشد كفره! وقال ابن جرير: ويحتمل أن يكون المراد: أي شيء جعله كافرا؟ أي: ما حمله على التكذيب بالمعاد.
وقال قتادة-وقد حكاه البغوي عن مقاتل والكلبي-: (مَا أَكْفَرَهُ ) ما ألعنه.
ثم بين تعالى له كيف خلقه من الشيء الحقير، وأنه قادر على إعادته كما بدأه، فقال: (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ) أي: قدر أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد. (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) قال العوفي، عن ابن عباس: ثم يسر عليه خروجه من بطن أمه. وكذا قال عكرمة، والضحاك، وأبو صالح، وقتادة، والسدي، واختاره ابن جرير .
وقال مجاهد: هذه كقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} الإنسان: 3 أي: بينا له ووضحناه وسهلنا عليه عمله وهكذا قال الحسن، وابن زيد. وهذا هو الأرجح والله أعلم .
وقوله: (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) أي: إنه بعد خلقه له (أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) أي: جعله ذا قبر. والعرب تقول: "قبرت الرجل": إذا ولى ذلك منه، وأقبره الله. وعضبت قرن الثور،
وأعضبه الله، وبترت ذنب البعير وأبتره الله. وطردت عني فلانا، وأطرده الله، أي: جعله طريدا قال الأعشى:
لَو أسْنَدَتْ مَيتًا إلى نَحْرها عَاش، وَلم يُنقَل إلى قَابِر
وقوله: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ) أي: بعثه بعد موته، ومنه يقال: البعث والنشور ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} الروم: 20 ، {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} البقرة: 259.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أصبغُ بنُ الفَرج، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث: أن دراجا أبا السمح أخبره، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يأكل الترابُ كلَّ شيء من الإنسان إلا عَجْبُ ذَنَبه قيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: "مثل حبة خردل منه ينشئون" .
وهذا الحديث ثابت في الصحيح من رواية الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، بدون هذه الزيادة، ولفظه: "كل ابن آدم يَبْلى إلا عَجْبُ الذَّنَب، منه خلق وفيه يُركَّب".
وقوله: (كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) قال ابن جرير: يقول: كلا ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر؛ من أنه قد أدى حق الله عليه في نفسه وماله، (لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) يقول: لم يُؤد ما فُرض عليه من الفرائض لربه عز وجل.
ثم روى-هو وابن أبي حاتم-من طريق ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قوله: (كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) قال: لا يقضي أحد أبدا كل ما افتُرض عليه. وحكاه البغوي، عن الحسن البصري، بنحو من هذا. ولم أجد للمتقدمين فيه كَلامًا سوى هذا. والذي يقع لي في معنى ذلك-والله أعلم-أن المعنى: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ) أي: بعثه، (كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) أي لا يفعله الآن حتى تنقضي المدة، ويفرغ القدر من بني آدم ممن كتب تعالى له أن سيُوجَدُ منهم، ويخرج إلى الدنيا، وقد أمر به تعالى كونا وقدرا، فإذا تناهى ذلك عند الله أنشر الله الخلائق وأعادهم كما بدأهم.
وقد روى ابنُ أبي حاتم، عن وهب بن مُنَبّه قال : قال عُزَير، عليه السلام: قال الملك الذي جاءني: فإن القبور هي بطنُ الأرض، وإن الأرض هي أم الخلق، فإذا خلق الله ما أراد أن يخلق وتمت هذه القبورُ التي مَدّ الله لها، انقطعت الدنيا ومات من عليها، ولفظت الأرض ما في جوفها، وأخرجت القبورُ ما فيها، وهذا شبيه بما قلنا من معنى الآية، والله -سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.