"عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعريّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مُسيءُ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) صحيح مسلم (2759).
"وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها، تاب الله عليه)) صحيح مسلم (2703).
"وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إنَّ الله يقبل توبة العبد ما لم يُغرغر)) سنن الترمذي (3537)، مسند أحمد (6160)، صحيح ابن حبان (628)، المستدرك (7659) تعليق الذهبي: صحيح.
مقدمة:
شرع الله التوبة لأهل الإيمان، بل لجميع الناس في كل وقت وزمان وحين، وفي كلّ حال، يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا } التحريم: 8 ، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) } النور: 31 . كما أخبر جلّ وعلا عن قبول التَّوبة في آيات عديدة، منها قوله تعالى: { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)} التوبة: 104 لكن جاءت النُّصوص مبيِّنةً الأجلَ الذي ينتهي عنده قبول التوبة، وهو الموضوع الّذي تتناوله الأحاديث الثَّلاثة.
معنى الأحاديث:
*قوله صلَّى الله عليه وسلَّم في حديث أبي موسى الأشعريّ: ((إنَّ الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مُسيءُ النَّهار، ويبسط يده بالنَّهار ليتوب مسيء الليل))، (بسطُ اليد عبارة عن الطلب، لأن عادة الناس إذا طلب أحدهم شيئاً من أحد بسط كفه، أو هو عبارة عن الجود والتنزُّه عن المنع، أو هو عبارة عن رحمة الله وكثرة تجاوزه عن الذنوب) دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (1/ 102)
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((حتى تطلع الشَّمس من مغربها))، أي عند ظهور هذه العلامة من علامات الساعة الكبرى، يُغلق باب التوبة، وذلك مصداق قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} الأنعام: 158 والمفسرون مجمعون على أنَّ المقصود بقوله تعالى: {بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} هو خروج الشمس من مغربها، خروجاً على السُّنّة المعهودة عنها، وذلك من دلالات وعلامات ذهاب نظام الكون واختلاله، وقد رويت أحاديث صحيحة في كون طلوع الشمس من مغربها علامة من علامات الساعة الكبرى، منها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوعُ الشمس من مغربها، والدَّجَّال، ودابَّة الأرض))( صحيح مسلم (158).
هذا هو معنى حديث أبي موسى الأشعريّ، ويُعضّد معناه حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها، تاب الله عليه))، فهذان الحديثان يحدّدان أجلاً عامّاً لانتهاء أمد التّوبة، يشترك فيه كلّ الناس، مسلمهم وكافرهم، كما قال تعالى: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} وهذا يخصُّ أهل الإيمان الذين آمنوا لكنَّهم فرَّطوا في حقوق الإيمان وواجباته، لا ينفعهم أن يتلافوا ذلك عندئذٍ بالتوبة، لانقطاعها.
وهنا سؤال: انقطاع التوبة بهذه العلامة العامة، هل هو مؤقت بذلك اليوم، أي يوم خروج الشمس من مغربها، أم أنه مستمر إلى قيام الساعة؟
للعلماء في ذلك قولان، والذي يظهر -والله أعلم- أنه مستمرٌّ، لدلالة كلٍّ من حديث أبي موسى الأشعريّ، وحديث أبي هريرة على أنّ باب التوبة يظلّ مفتوحاً إلى أن تطلع الشمس من مغربها.
ولماذا لا يقبل الله التوبة في هذه الحال؟
لأنه قد تبيّن للنّاس، أنّ الدنيا دارُ ابتلاء واختبار، طُلب فيه منهم أن يؤمنوا بغيبٍ لم يروه بأعينهم، فأخبرت الرُّسل عن البعث، وحذّرت أقوامها من عذاب يوم القيامة، فإذا عاينوا ذلك انقطعت الحجة، وصار الغيب الّذي طُلب منهم الإيمان به شهادةً تُبصر وتُدرك بالنَّظر، فالامتحان الحقيقي للمؤمنين في الدنيا، هو الإيمان بالغيب، ولذا كان الإيمان بالغيب أول صفات المؤمنين المتّقين التي ورد ذكرها في مقدمة سورة البقرة: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} البقرة: 1 - 3 .
*وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر: ((إنَّ الله يقبل توبة العبد ما لم يُغرغر))، (أي: ما لم تبلغ روحه حلقومه، فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به المريض) النهاية في غريب الحديث والأثر (3/360). ، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} النساء: 18 ، أي: "إذا حشرج أحدُهم بنفسه، وعاين ملائكةَ ربه قد أقبلوا إليه لقبض روحه" تفسير الطبري (8/ 98). ، تاب، قال ابن عباس: (فليس لهذا عند الله توبة) تفسير الطبري (8/ 99). ، فحديث عبد الله بن عمر، يحدّد أجلاً خاصّاً يُغلق عنده باب التوبة، ألا وهو حضور الموت.
والعلة في عدم قبول توبة الإنسان، عند حلول هذا الأجل الخاصّ، هو كون الميّت يُعاين ما أخبر به الله عز وجل، فيرى الملائكة ويرى ملك الموت، رأي العين، كما صحّ الخبر ممّا رواه البراء بن عازب رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إنَّ العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه))، وقال: ((وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه)) سنن أبي داود (3212)، سنن ابن ماجة (1548)، مسند أحمد (18534)، المستدرك (107).
ولهذا ينبغي للمؤمن أن يبادر بالتوبة، فإنه لا يدري متى يفجؤهُ الموت:
تزوَّد من الدُّنيا فانَّك لا تدري *** اذا جنَّ الليل هل تعيش الى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة *** و كم من سقيمٍ عاش حيناً من الدَّهر
و كم من فتىً أمسى وأصبح ضاحكاً *** و قد نُسجت أكفانه في الغيب و هو لا يدرِ
فالرَّاشد العاقل، هو الذي لا يفتر عن قول "ربِّ اغفر لي، وتب عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم"، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر من التَّوبة والاستغفار، عَنِ الأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِئَةَ مَرَّةٍ)) صحيح مسلم (2702).
من فوائد الأحاديث:
-رحمة الله تعالى بعباده، إذ أنسأ لهم في الأجل، وحضّهم على التوبة، ليل نهار، في كلّ الأوقات والأحوال.
-باب التوبة مفتوح لا يُغلق إلا عند تحقُّق أجلين: أجل ٌعام يشترك فيه كلُّ الناس مسلمهم وكافرهم، وهو طلوع الشَّمس من مغربها، وأجل خاصٌّ يتعلَّق بكلّ إنسانٍ في ذات نفسه، وهو بلوغ الروح الحلقوم.