الجنة والعمل من فضل الله تعالى
وعند تحقيق النظر فالجنة والعمل كلاهما من فضل الله ورحمته عَلَى عباده المؤمنين؛ ولهذا يقول أهل الجنة عند دخولها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} الأعراف: 43 .
فلما اعترفوا لله بنعمته عليهم بالجنة وبأسبابها من الهداية، وحمدوا الله عَلَى ذلك كله جُوزُوا بأَنْ نُودُوا: {أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الأعراف: 43 فأضيف العمل إليهم وشُكروا عليه.
ونظير هذا ما قاله بعض السَّلف: إنَّ العبد إذا أذنب ثم قَالَ: يا رب أنت قضيت عَلَيَّ، قَالَ له ربه: أنتَ أذنبت وأنت عصيت، فإن قَالَ العبد: يا رب أنا أخطأت وأنا أسأت، وأنا أذنبت.
قَالَ الله: أنا قضيت عليك وقدرت، وأنا أغفر لك.
الشقاء والسعادة بعدله ورحمته جلَّ وعلا
ومما يتحقق به معنى قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "لَنْ يدخلَ أحدٌ الجنةَ بِعملِهِ"، أو "لَنْ ينجّيَ أحدًا عملُهُ"، أن مضاعفة الحسنات إِنَّمَا هي من فضل الله عز وجل وإحسانه، حيث جازى بالحسنة عشرًا ثم ضاعفها إِلَى سبعمائة ضعف إِلَى أضعاف كثيرة. فهذا كله فضل منه -عز وجل-، ولو جازى بالحسنة مثلها كالسيئات لم تقوَ الحسنات عَلَى إحباط السيئات، فكان يهلك صاحبُ العمل لا محالة.
كما قَالَ ابن مسعود -رضي الله عنه- في صفة الحسنات: إن كان وليًّا لله فَفَضل له مثقال ذرة ضاعفها الله له حتى يُدخله بها الجنة، وإن كان شقيًّا قَالَ المَلَك: يا رب فَنِيت حسناته وبقي له طالبون كثير؟
قَالَ: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إِلَى سيئاته ثم صكوا له صكًّا إِلَى النار .
فتبيَّن بهذا أن من أراد اللهُ سعادَتَهُ أضعفَ اللهُ له حسناته حتى يستوفي (منها) الغرماء، ويبقي له منها مثقال ذرة فتضاعف له ويدخل بها الجنة، وذلك من فضل الله ورحمته.
ومن أراد الله شقاوته وله غرماء لم تضاعف حسناته كما تضاعف لمن أراد الله سعادته، بل يضاعفها عشرًا فتقسم عَلَى الغرماء فيستوفونها كلها، وتبقى لهم عليه مظالم فيطرح عليه من سيئاتهم فيدخل بها النار، قهذا عدله (وذاك) فضله .
ومن هنا قَالَ يحيى بن معاذ: إذا بسط فضله لم يبق لأحد سيئة، وإذا جاء عدله لم يبق لأحد حسنة.
وأيضاً، فقد ثبت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنّه قَالَ: "من نُوقش الحساب هلك" ، وفي رواية "عُذِّب" ، وفي رواية "خصم" .
وخرَّج أبو نعيم من حديث علي رضي الله عنه مرفوعًا: "أوحى الله إِلَى نبي من أنبياء بني إسرائيل: قُلْ لأهل طاعتي من أمتك لا يتكلوا عَلَى أعمالهم فإني لا (أقاص) عبدًا الحساب يوم القيامة أشاء أن أعذبه إلاَّ عذبته. وقل لأهل معصيتي من أمتك: لا يلقوا بأيديهم، فإني أغفر الذنب العظيم ولا أبالي.
وقال عبد العزيز بن أبي روّاد: أوحى الله إِلَى داود عليه السلام: يا داود بشِّر المذنبين وأنذر المُصَّدقين: فكأنه عَجِبَ، فَقَالَ: يا رب، أبشر المذنبين وأنذر (المُصَّدقين) ؟!
قَالَ: نعم، بشِّر المذنبين أنّه لا يتعاظمني ذنب أغفره، وأنذر المصدقين أني لا أضع عدلي وحسابي عَلَى عبد إلاَّ هلك .
قَالَ ابن عيينة: المناقشة سوء الاستقصاء حتى لا يترك منه شيء.
وقال ابن زيد: الحساب الشديد الَّذِي ليس فيه شيء من العفو، والحساب اليسير الَّذِي تغفر ذنوبه وتقبل حسناته.
فتبين بهذا أنّه لا نجاة للعبد بدون المغفرة والعفو والرحمة والتجاوز، وأنه متى أقيم العدل المحض عَلَى عبد هَلك.
ومما يبين ذلك أيضًا قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} التكاثر: 8 ، فهذا يدلُّ عَلَى أن الناسُ يسألون عن النعيم في الدُّنْيَا، وهل قاموا بشكره أم لا؟ فمن طولب بالشكر عَلَى كل نعمة من عافية وستر وصحةِ جسم وسلامة حواسٍّ وطيب عيش واستُقصي (ذلك عليه) ، لم تَفِ أعمالُهُ كلُّها بشكر بعض هذه النعم، وتبقى سائر النعم غير مقابلة بشكر فيستحق صاحبها العذاب بذلك.
وخرَّج الخرائطي في "كتاب الشكر" من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "يؤتى بعبد يوم القيامة فيوقفُ بين يدي الله عز وجل (فيقول الله للملائكة) : انظروا في عمل عبدي (ونعمتي) عليه. فينظرون فيَقُولُونَ: ولا بقدر نعمةٍ واحدةٍ من نعمك عليه.
فيقول: انظروا في عمله سيِّئه وصالحه. فينظرون فيجدونه كفافًا، فيقول: عبدي قد قبلتُ حسناتِكَ وغفرتُ لك سيئاتِكَ، وقد وهبت لك (نعمي) فيما بين ذلك".
وخرَّج الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "إنَّ الرجلَ يأتي يوم القيامة بالعمل لو وُضِعَ عَلَى جبلٍ لأثقله، فَتَقْدُم النعمة من نعم الله فتكاد أن تستنفد ذلك، إلاَّ أن يتطاول الله برحمته".
وخرَّج ابن أبي الدُّنْيَا من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا: "يؤتى (بالنعم) يوم القيامة ويؤتى بالحسنات والسيئات فيقول الله لنعمة من نعمه: خذي حقَّك من حسناته، فما تترك له حسنة إلاَّ ذهبت بها".
وبإسناده عن وهب بن مُنَبِّه قَالَ: عَبَدَ عابدٌ خمسين (عامًا) ، فأوحى الله إِلَيْهِ: إني قد غفرت لك. قَالَ: يا رب (ولم لا) تغفر لي ولم أذنب؟ فأذن الله لِعرق في عنقه فضرب عليه فلم ينم ولم يصلِّ، ثم سكن (ونام) فأتاه ملك فشكى إِلَيْه ما لقي من ضربان العرق، فَقَالَ المَلك: إن ربك عز وجل يقول: عبادتك خمسين سنة تعدل سكون (ذا) العرق.
وفي صحيح الحاكم عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا عن جبريل عليه السلام: "إنَّ عابدًا عَبَدَ الله -عز وجل- عَلَى رأس جبلٍ في البحر خمسمائة سنة، ثم سأل ربه أن يَقْبِضَه ساجدًا.
قَالَ جبريل: فنحن نمر عليه إذا هبطنا وإذا عرجنا، ونجد في العِلْم أنّه (يُبعث) يوم القيامة فيوقف بين يدي الله عز وجل فيقول الرب عز وجل: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي.
فيقول العبد: بعملي يا رب، يفعل ذلك ثلاث مراتٍ.
ثم يقول الله تعالى للملائكة: قايسوا عبدي بنعمي عليه وبعمله، فيجدون نعمة البصر قد أحاطت (بعبادته) خمسمائة سنة، وبقيت نعم الجسد له.
فيقول: أدخلوا عبدي النار.
فيُجر إِلَى النار فينادي (برحمتك يا رب أدخلني الجنة) ، فيدخله الجنة.
قَالَ جبريل: إِنَّمَا الأشياء برحمة الله يا محمد".
- ما يجب عَلَى العبد معرفته
فمن حقق معرفة هذه الأمور، عَرَفَ أنَّ العمل وإنْ عظم فإنَّه لا يستقل بنجاة العبد، ولا يستحق به عَلَى الله دخول الجنة، ولا النجاة من النار.
وحينئذٍ فيفلس العبد من عمله وييأس من الاتكال عليه ومن النظر إِلَيْه وإن كثر العمل وحسن.
فكيف بمن ليس له (كثير عملٍ) ، وليس له عملٌ حسنٌ؟
فإن هذا ينبغي أن يشغله الفكر في التقصير في عمله، ويشتغل بالتوبة من تقصيره والاستغفار منه.
الاشتغال بالشكر أعظم النعم
فأما من حَسُن عمله وكثر، فإنه ينبغي له أن يشتغل بالشكر عليه فإن ذلك من أعظم نعم الله عَلَى عبده.
فيجب مقابلته بالشكر عليه وبرؤية التقصير في القيام بشكره.
كما كان وهيب بن الورد إذا سُئل عن أجْر عمل من الأعمال يَقُول: لا تسألوا عن أجرِهِ ولكن سلوا عما يجب عَلَى من هدي له من الشكر عليه.
وكان أبو سليمان يقول: كيف يعجب عاقل بعمله؟
وإنَّما يُعد العمل نعمةً من نعم الله عز وجل، وإنما ينبغي له أن يشكر ويتواضع، إِنَّمَا يعجب بعمله القدرية.
يعني: الذين لا يرون أن أعمال العباد مخلوقةٌ لله عز وجل.
العمل لا يوجب النجاة
وما أحسن ما قَالَ أبو بكر النهشلي يوم مات داود الطائي وقام ابن -السمَّاك بعد دفنه يثني عليه بصالح عمله ويبكي، والناس يبكونه ويصدقونه عَلَى مقالته ويشهدون بما يثني به عليه، فقام أبو بكر النهشلي فَقَالَ: الفهم اغفر له وارحمه ولا تكله إِلَى عمله.
وفي "سنن أبي داود" عن زيد بن ثابت رضي الله عنه مرفوعًا: "لو عَذَّب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالمٍ لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم".
وفي "صحيح الحاكم" عن جابرٍ رضي الله عنه: أن رجلاً جاء إِلَى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: واذُنوباه واذُنوباه. قالها مرتين أو ثلاثًا.
فَقَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: "قل: اللَّهم مغفرتُك أوسعُ لى من ذنوبي، ورحمتُكَ أرجى عندي من عملي".
فقالها، ثم قَالَ: "عد" فعاد، ثم قَالَ: "عد" فعاد فَقَالَ له: "قم فقد غُفِرَ لك".
ذنوبي إن فكَّرتُ فيها كثيرةٌ ... ورحمةُ ربي مِنْ ذنوبي أوسعُ
وما طمعي في صالحٍ قد عملتُهُ ... ولكنني في رحمةِ اللهِ أطمعُ
الاعتراف بفضل الله عز وجل
فَإِذَا تقرر (هذا) الأصل الشريف العظيم، وعُلم أنَّ العمل بنفسه لا يوجب النجاة من النار ولا دخول الجنة، فضلاً عن أن يوجب بنفسه الوصولَ إِلَى أعلى ما في الجنة من منازل المقربين، والنظرَ إِلَى وجه ربِّ العالمين، وإنما ذلك كله برحمة الله وفضله ومغفرته.
فذلك يوجب عَلَى المؤمن أن يقطع نظره عن عمله بالكلية، وأن لا ينظر إلاَّ إِلَى فضل الله ومنّته عليه.
كما سُئل بعض العارفين: أي الأعمال أفضل؟
قَالَ: رؤية فضل الله عز وجل، وأنشد:
إنَّ المقادير إذا ساعدتْ ... ألحَقَت العاجزَ بالحازمِ
ما عَلَى العبد للفوز والنجاة
فيتعين حينئذٍ عَلَى العبد المؤمن الطالب للنجاة من النار ولدخول الجنة، وللقرب من مولاه والنظر إِلَيْه في دار كرامته، وإن يطلب ذلك بالأسباب الموصلة إِلَى رحمة الله وعفوه ومغفرته ورضاه ومحبته.
فبها ينال ما عند الله من الكرامة.
إذ الله سبحانه وتعالى قد جعل للوصول إِلَى ذلك أسبابًا من الأعمال التي جعلها موصلة إليها، وليس ذلك موجودًا إلاَّ فيما شرعه الله لعباده عَلَى لسان رسوله، وأخبر عنه رسوله أنّه يقرِّب إِلَى الله ويوجب رضوانه ومغفرته، وأنه مما يحبُّه الله، أو أنّه من أحبَّ الأعمال إِلَى الله عز وجل، فقد قَالَ تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} الأعراف: 56 .
وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الأعراف: 156 .
فالواجب عَلَى العبد البحثُ عن خصالِ التقوى وخصال الإِحسان التي شرعها الله في كتابه، أو عَلَى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والتقرب بذلك إِلَى الله عز وجل فإنه لا طريق للعبد يوصله إِلَى رضى مولاه وقربه ورحمته وعفوه ومغفرته سوى ذلك.
بيان أَحَبِّ الأعمال إِلَى الله
وقد أشار النبيّ صلّى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث المُشار إليها في أول الجزء من رواية عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما إِلَى أنَّ أحبَّ الأعمال إِلَى الله عز وجل، شيئان:
أحدهم: ما داوم عليه صاحبه وإن كان قليلاً.
وهكذا كان عمل النبيّ صلّى الله عليه وسلم وعمل آله وأزواجه من بعده، وكان ينهى عن قطع العمل.
وقال لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: "لا تكُنْ مثلَ فلانٍ كان يقومُ الليلَ فترك قيام الليل" .
وقال: "يُستجاب لأحدكم ما لم يَعْجَلْ فيقول: قد دعوت فلم يُسْتجب لي فيستحسر عنيد ذلك ويَدَع الدعاء" .
قَالَ الحسن: إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداومًا عَلَى طاعة الله عز وجل فبغاك وبغاك، فرآك مداومًا مَلَّكَ ورفضك، وإذا رآك مرةً هكذا ومرةً هكذا طمع فيك.
والثاني: أنَّ أحبَّ الأعمال إِلَى الله ما كان عَلَى وجه السداد والاقتصاد والتيسير دون ما كان عَلَى وجه التكلف والاجتهاد والتعسير.
كما قَالَ تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} البقرة: 185 .
وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} المائدة: 6 .
وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الحج: 78 .
وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يقول: "يسِّروا ولا تعسِّروا" .
وقال: "إِنَّمَا بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" .
وفي "المسند" عن ابن عباس قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الأديان أحبُّ إِلَى الله عز وجل؟ قَالَ: "الحنيفية السمحة".
وفيه أيضاً عن مِحْجَن بن الأدرع أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم دخل إِلَى المسجد فرأى رجلاً قائمًا يصلّي فَقَالَ: "أتراه صادقًا؟ ".
فقيل: يا نبي الله هذا فلان، هذا من أحسن أهل المدينة، ومن أكثر أهل المدينة صلاة.
فَقَالَ: (لا تُسْمِعه) فتُهلكه -مرتين أو ثلاثًا- إنكلم أمة أُريد بكم اليسر".
وفي رواية أخرى له قَالَ: "إن خير دينكم أيسره".
وفي رواية أخرى له قَالَ: "إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة".
وخرجه حميد بن زنجويه وزاد فيه فَقَالَ: "واكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يملُّ حتى تملُّوا، وعليكم بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدلجة".