عن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "كان فيمن كان قبلكم رجلٌ قتل تسعةً وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على راهبٍ فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبة ؟ فقال: لا ، فقتله فكمّل به مئة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على رجلٍ عالم ٍ، فقال : إنه قتل مئة نفسٍ فهل له من توبة؟ فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أُناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى ، وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيراً قط ، فأتاهم ملكٌ في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال : قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أدنى فهو له ، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة" صحيح مسلم (2766)، صحيح البخاري (3470).
مقدمة:
في هذا الحديث، يُبين الرسول صلى الله عليه وسلم، سعة رحمة الله عز وجلّ، إذ جعل باب التوبة مفتوحاً للتّائبين، مهما عظمت ذنوبهم، لا يُغلقه إلا خروج الروح أو خروج الشمس من مغربها، يُبين الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المعنى من خلال حكاية قصة رجلٍ من بني إسرائيل.
معنى الحديث:
قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((كان فيمن كان قبلكم، رجلٌ قتل تسعةً وتسعين نفساً))، أي: كان في الأقوام السابقين قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، رجل بلغ الغاية في التّمرّد والعصيان، حتى إنه قتل تسعةً وتسعين نفساً، ظلماً وعدواناً، وتُشير رواية الإمام البخاري للحديث إلى أنّ هذا الرجل كان من بني إسرائيل، حيث ورد فيها قوله صلى الله عليه وسلم: ((كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا)) صحيح البخاري (3470).
قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((فسأل عن أعلم أهل الأرض)) أي: أنّ هذا الرجل قد رغب في التّوبة، ولكن كيف يتوبُ وقد قتل تسعةً وتسعين نفساً؟ فلذا فكّر أولاً في سؤال العلماء عمّا إذا كان ممكناً قَبولُ توبته، فسأل عن أعلم أهل الأرض.
قول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((فدُلَّ على راهبٍ)) أي فدلّه النّاسُ على راهبٍ، أي عابدٍ من عبَّاد بني إسرائيل، أنه أعلم أهل الأرض.
قول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((فأتاه فقال: إنه قتل تسعةً وتسعين نفساً، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمّل به مئة)) أي: فأتى هذا الرجل القاتل، إلى هذا الرّاهب، فسأله عمّا إذا كان بإمكانه أن يتوب إلى الله، بعد قتله لتسعة وتسعين نفساً، ظلماً وعدواناً، فأجابه الراهب بالنفي، وأوقعه في ميدان اليأس والقنوط من رحمة الله، فقتله وكمّل به المائة.
قول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجلٍ عالم)) أي بعد قتله للرّاهب، ما يزال هذا الرجل راغباً في التّوبة، فسأل عن أعلم أهل الأرض، وكأنه يقول إنّ هذا الرّاهب ليس أعلم أهل الأرض، فدلّه النّاس على عالمٍ، والعالم هو الرّجل البصير بدلالات الوحي، العالم بشرع الله عز وجل.
قول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((فقال: إنه قتل مئة نفسٍ فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة))، يعني لا أحد يستطيع أن يحول بينك وبين التوبة، فبابها مفتوحٌ، لا يستطيع إغلاقه أحدٌ، ولا يمنع منها ذنبٌ مهما عظم، ولا يكبر عليها خطأ مهما جلَّ، فالله يتوب على كلّ من تاب إليه، ولو كانت توبته من الكفر، فما دونه من باب أولى، فهذا الرّجل العالم كان بصيراً بهذه المعاني الشّرعيّة، فلذا قوَّى في نفسه دواعي التَّوبة والإنابة.
قول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أُناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء))، ومن دلائل علم هذا الرّجل العالم وبصيرته، أنه بعد أن فتح لهذا القاتل التّائب أبوابَ الأمل في رحمة الله تعالى، فأشار إليه بأمرٍ يُعينه على إصلاح ماضي حياته بالتوبة والمحافظة عليها، ويُعينه على إصلاح مستقبل حياته بالتوبة والاستمرار فيها، أشار إليه بالانتقال عن أرض السّوء وبيئة الفساد التي كان فيها، إلى أرضٍ طيّبةٍ فيها عبّاد صالحون يعينونه على الخير، فوجهه إلى الارتحال إليها.
قول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط))، أي أنّ هذا الرجل كان صادقاً في توبته، فاستجاب لتوجيه العالم ونصحه، فانطلق نحو القرية الصالحة مبتعداً عن قرية السوء، فقدّر الله عليه الموت في منتصف الطريق بين القريتين، فهل مات مؤمناً؟ أم مات كافراً؟ فإن مات مؤمناً فإنّ الملائكة الموكّلة بقبض روحه هي ملائكة الرّحمة، وإن مات كافراً، فإن الملائكة الموكّلة بقبض روحه هي ملائكة العذاب، فهذا الرجل لما كان موته في منتصف الطريق بين القريتين، اختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ملائكة الرحمة تعتبر بما قام في قلبه من الإيمان، وما عمل لأجله من التوجه إلى الأرض الصالحة، ليتحقَّق له تمام التوبة، وملائكة العذاب اعتبرت بما كان من عظيم الجناية التي حصلت منه بقتل مئة نفس.
قول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((فأتاهم ملكٌ في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيِّهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة))، أي فأرسل الله تعالى إلى فريقي الملائكة المختصمين مَن يكون حكماً بينهم، وهو ملكٌ جاءهم في صورة آدميٍّ، وأشار إليهم أن إذا كان هذا الرجل التائبُ أقربَ إلى قرية السوء، تقبضه ملائكة العذاب، وإذا كان أقرب إلى قرية الصَّلاح، تقبضه ملائكة الرَّحمة، فوجدوه إلى قرية الصَّلاح أقربَ.
وفي رواية في الصَّحيح: "فكان إلى القرية الصَّالحةِ أقربَ بشبر فجُعل من أهلها".
و في رواية في الصَّحيح: "فأوحى الله تعالى إلى هذه الأرض أن تباعدي، وإلى هذه أن تقرَّبي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغُفر له".
وفي رواية: "فنأى بصدره نحوها"، وهذا يدلُّ على صدق رغبة الرّجل التّائب في التَّوجُّه إلى جهة القرية الصالحة، حيث كان رغم ما يعانيه من النزع و الاحتضار، يزحف بصدره نحوها.
ولا تعارض بين هذه الروايات، فكلّها يمكن الجمع بينهما.
من فوائد الحديث:
- أنَّه ما من ذنبٍ إلا وهو تحت المغفرة والتَّوبة، وقد قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} الزمر: 53 ، وقد قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء: 48 ، فسبحان من تتلاشى الذنوب أمام عفوه ومغفرته.
- أنَّ الإنسان إذا أراد أن يسأل ويستفتي، فينبغي أن يتوجَّه بسؤاله إلى من هو أعلمُ بالشريعة، لا إلى من هو أكثر عبادةً، فليس الشأن في صلاح العمل فقط، بل لا بدَّ كذلك من رسوخ العلم الذي يهدي به الله عباده إلى سواء السَّبيل.
- أنَّ الإنسان يتأثر بالمحيط الذي حوله، فالصُّحبة الطيبة تُعينك على الخير، وتشجعك على البر، وتدلك على تلافي ما مضى من سيِّء العمل، أما الصُّحبة السيئة فلا تزيدك إلا شراً وفساداً وسوءاً.
- أنَّ التوبة من تمامها أن يفارق الإنسان أرض السّوء، ويرتحل بقلبه وجوارحه إلى أرض الصلاح.
- أن الإنسان إذا تاب وتوجه بقلبه إلى الصّلاح، يسَّر الله له بلوغ غايته، وإن حال بينه وبينها مانع خارج عن اختياره، ما دام أنه قد صدق في قلبه وتوجه بالممكن من عمله، فلذا بلَّغ الله تعالى هذا الرجل منازل الصَّالحين، فقبضته ملائكة الرحمة، وهذا صدق قول الله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) } النساء: 100، 101 .
- أنّ العلماء رحمهم الله قد اختلفوا في قبول توبة القاتل عمداً، وذلك لشدة ما ورد فيها من الوعيد، في قول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} النساء: 93 فهذه أربع عقوبات يستحقُّها القاتل عمداً؛ فلذا أكّد بعض أهل العلم أنه لا توبة لمن قتل مؤمناً متعمِّداً؛ وبهذا قال جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم ابن عباس: أنَّ القاتل عمداً لا توبة له، وهو خلاف ما عليه جماهير العلماء، من قبول توبة القاتل عمداً، بناءً على أنّ القتل فيه ثلاثة حقوق:
الحقُّ الأول: لله تعالى، فهذا داخل تحت التوبة.
والحقُّ الثَّاني: للمقتول، وهذا لا يمكن تداركه إلا في الآخرة، بين يدي الله عز وجل، وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنه، قوله: سمعت نبيَّكم صلى الله عليه وسلم يقول: (( يجيء المقتولُ متعلقاً بالقاتل، يقول: يا ربِّ سل هذا فيم قتلني؟)) مسند أحمد (1941)، سنن النسائي (3999)، سنن ابن ماجة (2621)، صحيح الترغيب والترهيب (2448). ، والرَّاجح أنَّ العبد إذا صدق في التَّوبة إلى الله تعالى، فإنّ الله جلّ جلاله يتحمل عنه حقَّ المقتول، ويُعوِّضه يوم القيامة بما يشاء، فلا يذهب حق هذا، ولا تبطل توبة هذا.
الحقُّ الثَّالث: لورثة الدَّم، وهذا لا سبيل للافتكاك منه إلا بالدِّية أو بالقصاص أو بالعفو.
ويؤيّد ذلك ما رُوي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قال: رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم:
((الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثَلاَثَةٌ: دِيوَانٌ لاَ يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لاَ يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لاَ يَغْفِرُهُ اللَّهُ. فَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لاَ يَغْفِرُهُ اللَّهُ، فَالشِّرْكُ بِاللَّهِ , قال: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} المائدة: 72 .وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لاَ يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا، فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ تَرَكَهُ، أَوْ صَلاَةٍ تَرَكَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَغْفِرُ ذَلِكَ وَيَتَجَاوَزُ إِنْ شَاءَ، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لاَ يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضا، الْقِصَاصُ لاَ مَحَالَةَ)).
- ومن فوائد الحديث انّ الملائكة تختصم في إنفاذ أمر الله عز وجل، ومن ذلك قول الله تعالى: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) } ص: 69، 70 "أي: لولا الوحي من أين كنت أدري باختلاف الملأ الأعلى؟ يعني: في شأن آدم وامتناع إبليس من السُّجود له، ومحاجَّته ربه في تفضيله عليه" تفسير ابن كثير (7/ 80). ، وفي غير ذلك من الأمور، كما في هذا الحديث