عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: ((أنَّ أناساً من الأنصار سألوا رسولَ الله صلي الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، فقال لهم حين أنفق كلَّ شيء بيده: (( ما يكن عندي من خيرٍ فلن أدَّخره عنكم ، ومن يستعفف يُعفُّه الله ، ومن يستغن يُغنه الله ، ومن يتصبَّر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسعَ من الصَّبر)). صحيح البخاري (1469).
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد
معنى الحديث:
*قول أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: ((أنَّ أناساً من الأنصار)):قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»: (لم يتعيَّن لي أسماؤهم، إلا أنَّ النَّسائي روى من طريق عبدالرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه، ما يدلُّ على أن أبا سعيد راوي هذا الحديث، خوطب بشيء من ذلك، ولفظه في حديثه: ((سرَّحتني أمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعني لأسأله من حاجةٍ شديدة، فأتيتُه وقعدت فاستقبلني، فقال: ((من استغنى أغناه الله عز و جل، ومن استعفَّ أعفَّه الله عز وجل)) سنن النسائي (2595)، مسند أحمد الرسالة (11060)، سنن أبي داود (1628). الحديث، وليس لمعرفة أسماء هؤلاء من فائدةٍ، فالعبرة بالخبر لا بالأشخاص الذين أُخبر عنهم.
*قول أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: ((سألوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم)) أي من الصَّدقة أو من الزَّكاة أو من غيرها من الأموال التي تورد إليه صلى الله عليه وسلم.
*قول أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: ((فأَعطاهم)) (أي: عقب سؤالهم ولم يتوانَ، لما جُبل عليه من مكارم الأخلاق والسماحة) دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (1/ 174).
*قول أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: ((ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده)) أي فكرَّروا المسألة أكثر من مرة وهو يعطيهم، حتى ذهب بالإنفاق جميعُ ما عنده.
*قول أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: ((فقال لهم حين أنفق كلَّ شيء بيده:)) أي لمّا نفد المال ولم يبقَ منه شيءٌ، قال لهم:
*قول الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ما يكونُ عندي من خيرٍ فلن أدَّخرَه عنكم)) أي: ما يكون عندي من المال فلن أمنَعكم إيَّاه، وهذا كالاعتذار منه صلى الله عليه وسلم، لهؤلاء الذين ألحُّوا عليه في السؤال: أنه لو كان عنده شيءٌ باقٍ بعد الذي أعطاهم، لما بخل عليهم به، فقوله صلَّى الله عليه وسلم: ((فلن أدَّخرَه عنكم)) أي: (لا أجعله ذخيرةً لغيركم، معرضاً عنكم، أو فلا أخبؤه وأمنعكم إياه) دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (1/ 175). ، فطمأنهم من هذه الناحية، كما هيَّأ نفوسَهم للتَّوجيه التَّربويّ الّذي سيسوقه إليهم، والّذي أدرك أنّهم بحاجةٍ إليه، وكذلك كلُّ مسلمٍ يقع فيما وقعوا فيه من الإلحاف في المسألة.
*قول الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ومن يستعففْ)) أي: من يطلب العفاف والتَّعفُّف، فيكُفَّ نفسه ويصونها عن التطلّع والتّشوّف إلى أموال الناس، زاهداً عما في أيديهم، والجملة شرطيَّة، وهذا فعلُها: فعل الشَّرط.
*قول الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((يُعفُّه الله)) جواب الشرط، أي: يرزقه الله تعالى العفاف، جزاءً على اجتهاده، حتّى يكون له جِبِلَّة وسجيَّةً وخُلقاً.
*قول الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ومن يستغنِ)) أي من يطلب الغِنى، وهو مرتبةٌ أعلى من التَّعفُّف، فالتّعفّفُ صونُ النَّفس عن التّطلّع إلى أموال الناس، بينما الغنى إظهارُ فضل الله عليه، واستغناؤه وعدم حاجته وعدم قبوله لما يأتوه به من العطاء.
*قول الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((يُغنِه الله)) فإمّا أن يرزقَه من المال بما يغتني به عن النَّاس، وإمَّا أن يجعل في قلبه قناعةً تُغنيه عن أن يقبل من النَّاس شيئاً، وبكلا المعنيين يحصل المقصود.
ثم بعد أن ذكر هاتين الخصلتين، وهما مما يتعلق بكفِّ النفس عما في أيدي الناس، والطمع فيما آتاهم الله من فضله، وتعلُّق القلب بالله وحده، تعفُّفاً واستغناءً، ذكر الخصلة الجامعة التي تقود إلى كل فضيلة وتهدي إلى كلِّ خَلَّة جميلة:
*قول الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ومن يتصبَّرْ)) أي يعالج نفسه حتى تحقّق مقام الصَّبر، على ضيق العيش وغيره من مكاره الدنيا، فيتجرّع مرارته، ولا يشكو لغير مولاه، حابساً نفسه عن الوقوع في المعصية، وعلى الاجتهاد في تحقيق الطاعة، والصَّبر على ما يقدّره الله عزّ وجلّ عليه من البلايا!
*قول الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((يُصبِّره الله)) أي يرزقه الله تعالى صبراً، وهو الخصلة الجامعة للخيرات كلِّها.
*قولُ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((وما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسعَ من الصَّبر)) أي فإنّ الصَّبر، وهو هذه القوّة النفسيّة، خيرٌ وأوسع من العطاء الماليّ، ومن أيّ عطاء يُمكن أن يناله الإنسان في الدنيا، فهو خيرٌ إذ هو الّذي به يُدرك المرء كلّ خصال الخير وفضائل الأخلاق، كالعفاف والغنى، وهو الّذي يُدرك به مقام شكر الله عز وجلّ على نعمه الجزيلة، الظاهرة والباطنة. وهو أوسع لأنّ الإنسان لو أوتي من المال والبنين ومتاع الحياة الدنيا، ولم يؤتَ صبراً عن المعصية، وصبراً على الطاعة، وصبراً على ما يقدره الله من الأقدار المؤلمة، فإنّ تلك المتع قد تكون وبالاً عليه في الدُّنيا والآخرة، لكنه إذا أُعطي الصَّبرَ أحسن النظر في ماله إن كان غنيّاً، وفي حاله إن كان فقيراً، فالصبر مفتاح الفرَج والخيرات كلّها.
من فوائد هذا الحديث:
- أنّ من فضائل الأخلاق إجابة سؤال السائل، ولو تكرّر، ما دام بإمكان المرء أن يجود عليه.
- أنّ من حسن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وكمال خصاله، وصدق ما أخبر الله تعالى به عنه من قوله عزّ وجلّ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4] فإنه لم يضِق بإلحاف السائلين في المسألة، بل اعتذر إليهم عند نفاد ما عنده من العطاء، وطمأنهم ووعدهم خيراً!
- حرص النّبيّ صلى الله عليه و سلم، على هداية النّاس إلى مكارم الأخلاق، فإنّه وإن لم يضِق بإلحاف السَّائلين في المسألة، رقّ لحالهم وشعورِهم بالحاجة إلى الآخرين، وعجزهم عن التّعفّف والاستغناء عن عطاياهم، فلذا بذل لهم من النصح الجميل.
- بيان النّبيّ صلى الله عليه وسلم لحقيقةٍ من أكبر الحقائق الأخلاقيّة والتَّربويّة، ألا وهي حقيقة أنَّ الخصال الحميدة تُكتسب، وذلك بالاجتهاد في ممارستها شيئاً فشيئاً، ثم يقدِّر الله عز وجلّ أن تكون طبعاً من الطباع وسجيّةً من السجايا، وذلك على قاعدة أنّ الجزاء في الدنيا يكون من جنس العمل، فمن يستغنِ يُغنه الله، ومن يستعفف يعفّه الله، فتبيّن بذلك أنّ الفضائل وخصال الخير، شأنُها شأن جميع المهارات التي يستطيع أن يتعلّمها الإنسان بالتدرُّب عليها شيئاً فشيئاً، حتى تكون عادةً راسخة، كما تبيّن من الحديث أنّ للصبر دوراً كبيراً في ذلك.
- الإشارة إلى العلاقة بين المعنى الخاص للعفاف والتّعفّفِ الّذي هو كفُّ النَّفس عن التّطلّع إلى أموال الناس، والمعنى العام الذي هو كفُّ النفس عن الفواحش عموماً، وأنّ عدم التّعفّف عن أموال الناس، قد يورث الشعور بالدّونية وعدم الأنفة، مما قد يؤدي إلى عدم التّعفف بمعناه العام.
- بيان أنّ الصبر مقام واسع، إذ (به تتَّسع المعارفُ والمشاهد والمقاصد)، فإن قيل: (مقام الرضى أفضل منه كما صرَّحوا به). قيل: (هو غايته لأنه لا يُعتدُّ به إلا معه، فليس أجنبيَّاً عنه، إذ الصَّبرُ من غير رضىً: مقامٌ ناقص جداً) شرح رياض الصالحين، حطيبة (37/ 13)، بترقيم الشاملة آليا.