قوله تعالى:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} الآية.
أفرد في هذه الآية الضمير في قوله استوقد وفي قوله ما حوله وجمع الضمير في قوله:{ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ}, مع أن مرجع كل هذه الضمائر شيء واحد وهو لفظة الذي من قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي}, والجواب عن هذا أن لفظة الذي مفرد ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها, وقد تقرر في علم الأصول أن الأسماء الموصولة كلها من صيغ العموم, فإذا حققت ذلك فاعلم أن إفراد الضمير باعتبار لفظة الذي وجمعه باعتبار معناها, ولهذا المعنى جرى على ألسنة العلماء أن الذي تأتي بمعنى الذين ومن أمثلة ذلك في القرآن هذه الآية الكريمة, فقوله كمثل الذي استوقد أي كمثل الذين استوقدوا بدليل قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ} الآية.
وقوله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وقوله: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} أي كالذين ينفقون بدليل قوله: {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} وقوله: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} بناء على الصحيح من أن الذي فيها موصولة لا مصدرية ونظير هذا من كلام العرب قول الراجز:
يا رب عبس لا تبارك في أحد **في قائم منهم ولا في من قعد.
إلا الذي قاموا بأطراف المسد.
وقول الشاعر وهو أشهب بن رميلة وأنشده سيبويه لإطلاق الذي وإرادة الذين:
وأن الذي حانت بفلج دماؤهم**هم القوم كل القوم يا أم خالد.
وزعم ابن الأنبارى أن لفظة الذي في بيت أشهب جمع الذ بالسكون وأن الذي في الآية مفرد أريد به الجمع وكلام سيبويه يرد عليه وقول هديل بن الفرخ العجلى:
وبت أساقى القوم إخوتي الذي**غوايتهم غيي ورشدهم رشدي.
وقال بعضهم المستوقد واحد لجماعة معه ولا يخفى ضعفه.
قوله تعالى:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}الآية هذه الآية يدل ظاهرها على أن المنافقين لا يسمعون ولا يتكلمون ولا يبصرون, وقد جاء في آيات أخر ما يدل على خلاف ذلك كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}،وكقوله: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِم} الآية, أي لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم, وقوله: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَاد} إلى غير ذلك من الآيات, ووجه الجمع ظاهر, وهو أنهم بكم عن النطق بالحق وإن رأوا غيره, وقد بين تعالى هذا الجمع بقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً} الآية, لأن مالا يغني شيئا فهو كالمعدوم والعرب ربما أطلقت الصمم على السماع الذي لا أثر له ومنه قول قعنب بن أم صاحب:
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به**وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا.
وقول الشاعر:
أصم عن الأمر الذي لا أريده**وأسمع خلق الله حين أريد.
وقول الآخر:
فأصممت عمرا وأعميته**عن الجود والفخر يوم الفخار .
وكذلك الكلام الذي لا فائدة فيه فهو كالعدم.
قال هبيرة بن أبي وهب المخزومى:
وإن كلام المرء في غير كنهه**لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها.
قوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} الآية.
هذه الآية تدل على إن هذه النار كانت معروفة عندهم, بدليل أل العهدية, وقد قال تعالى في سورة التحريم:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}, فتنكير النار هنا يدل على أنها لم تكن معروفة عندهم بهذه الصفات.
ووجه الجمع أنهم لم يكونوا يعلمون أن من صفاتها كون الناس والحجارة وقودا لها فنزلت آية التحريم فعرفوا منها ذلك من صفات النار, ثم لما كانت معروفة عندهم نزلت آية البقرة, فعرفت فيها النار بأل العهدية لأنها معهودة عندهم في آية التحريم, ذكر هذا الجمع البيضاوى والخطيب في تفسيريهما وزعما أن آية التحريم نزلت بمكة وظاهر القرآن يدل على هذا الجمع لأن تعريف النار هنا بأل العهدية يدل على عهد سابق والموصول وصلته دليل على العهد وعدم قصد الجنس ولا ينافي ذلك أن سورة التحريم مدنية وأن الظاهرنزولها بعد البقرة, كما روي عن ابن عباس لجواز كون الآية مكية في سورة مدنية كالعكس.